صلاح جديد.. أنصف الفقراء فأغضب المشايخ والتجار

قبل أن يتوفى داخل السجن بحوالي 12 يوما كتب صلاح جديد بخط يده كلمات مؤثرة لابنته وفاء على صفحة رواية لدوستوفسكي عنوانها "مذلون مهانون" جاء في مقدمتها: (إلى أحب الناس إليّ… وأعز ما في الوجود… إلى ابنتي الحبيبة وفاء… ذكرى آلام وأيام صعبة نمر بها.… لعلنا نجد ترجيعها وأصداءها في هذه الرواية. وكلي أمل أن يكون في وسعنا مستقبلاً ترديد ما جاء في نهايتها:
فانيا، فانيا، كان هذا كله حلماً أليس كذلك؟
ما الذي كان حلماً؟
كل شيء، كل شيء، كل شيء حدث هذه السنة يا فانيا، لماذا –أنا– هدمت سعادتك؟ وقرأت في عينيها: “كان يمكن أن نسعد معا إلى الأبد“.
يوم 19 آب 1993
توفي في سجن المزة العسكري بدمشق اللواء صلاح جديد أحد أهم أعمدة الحكم في سوريا في الفترة مابين 1966 و 1970.
كان جديد قد نقل الى مستشفى المزة العسكري ليلة 18 آب بعد تعرضه لوعكة صحية سرعان ماأعلنت وفاته بعد ساعات.
أفاد التقرير الطبي ان سبب الوفاة هو (وهط دوراني أدى إلى قصور كلوي وهذا أدى إلى إنتان في الدم).
شككت العائلة بقضية وفاته و ذكروا حسب موقع روسيا العربية أن صحته جيدة باستثناء آلام في المفاصل، وكان يطلب زيارة الأطباء للعلاج. لكن تبين فيما بعد أنهم حقنوه بإبرة تستهدف الأعضاء الحيوية في الجسم، ونُقل بسرعة إلى المستشفى حيث توفي مسموماً.
شيع صلاح جديد في قريته دوير بعبدا في ريف اللاذقية و طوت وفاته سيرة الرجل العسكري والحزبي الذي رسخ الأسس الصلبة لسلطة البعث في سوريا حتى نهاية النظام .
ولد جديد عام 1926 في قرية دوير بعبدا احدى قرى بلدة جبلة الساحلية، وينتمي إلى أسرة متوسطة من عشيرة الحدادين التي هي اكبر واهم العشائر العلوية ،نشأ صلاح سياسيا في مناخ مناصر للحزب السوري القومي الاجتماعي في القرية و العائلة الى جانب شقيقه الاكبر غسان الذي كان يشغل منصب قائد الكلية العسكرية في حمص ولاحقا رئيس التنظيم العسكري في الحزب السوري القومي الاجتماعي المتهم باغتيال العقيد عدنان المالكي.
في مدرسة اللاييك الفرنسية في طرطوس تغيرت ميول صلاح جيد بعد التأثر الذي اجتاح الطلاب في تلك الفترة بأفكار زكي الارسوزي وطروحات وهيب غانم
التحق بالكلية الحربية في حمص عام 1949 وتخرج عام 1951برتبة ملازم اختصاص مدفعية ميدان انضم الى الكتلة الحزبية التي كانت متواجدة في الجيش انذاك بقيادة مصطفى حمدون وعبد الغني قنوت وغيرهما... وقد امضى خدمته العسكرية "قبل نقله الى مصر بعد قيام الوحدة" متنقلا بين معسكرات قطنا والقطيفة والقنيطرة وقد ساهم في هذه الفترة باهم حدثين سياسيين في الجيش هما:الانقلاب ضد اديب الشيشكلي عام 1954وعصيان قطنا عام 1957دعما للضباط الوطنيين التقدميين في قيادة الجيش.
"كان القائد البعثي سامي الجندي كان قد ذكر بأن جديد لم ينتسب للحزب و لم يقسم يمينه وهو يعترف بأن جديد شارك في أواخر الاربعينيات وهو طالب مدرسة ثانوية في حلقات الحزب لفترة قصيرة بوصفه نصيرا فحسب، غير أن أكرم الحوراني كان قد ذكر بأنه عرف جديد حين كان ضابطا صغيرا"
نقل بعد قيام الوحدة للعمل في الجيش الثاني في الاقليم الجنوبي "مصر" وكان برتبة رائد وعين قائدا لكتيبة مدفعية ميدان تابعة للفرقة الثانية مشاة المتمركزة على القناة "فايد" في مدينة الاسماعيلية وحتى مدينة السويس ثم قيادة مدفعية اللواء الرابع وبعد ذلك نقل الى مدرسة المدفعية لتدريب ضباط قادة اختصاص مدفعية ميدان.
في مصر انضم الى تنظيم سري في الجيش عرف باسم اللجنة العسكرية التي تشكلت من عدد من الضباط السوريين في مصر سنة 1960وضمت حسب الاستاذ مروان حبش كل من (محمد عمران، صلاح جديد، عبد الكريم الجندي، حافظ الأسد، منير الجيرودي، أحمد المير محمود، عثمان كنعان).
عندما حدث الانفصال في 28ايلول 1961كان موجودا في مصر حيث كان يقيم في شارع محمد شفيق ولم يسجن يوماواحدا على الاطلاق كما ورد سابقا وعاد جديد الى سورية.
عند قيام انقلاب الثامن من آذار كان صلاح جديد من الضباط الذين شملهم التسريح في نهاية عهد الوحدة مع مصر غير انه لم يتوقف عن ممارسة نشاطه الحزبي رفقة زملائه من ضباط الجيش في اللجنة العسكرية، والذين كان لهم دور في التخطيط لانقلاب أذار والذي أعيد بموجبه أعضاء اللجنة العسكرية المسرحين الى صفوف الجيش و عهد الى جديد بوظيفة معاون مدير إدارة شؤون الضباط. وتمت اعادته الى مرتبة مقدم إسوة بأبناء دورته وبقرار من مجلس قيادة الثورة حينها وعين نائبا لمدير ادارة شؤون الضباط التي كان مديرها اللواء غسان حداد.
يقول باتريك سيل في وصف صلاح جديد (أما صلاح جديد، الأنيق، ذو الشعر الفاحم فكان شخصية مناقضة لمحمد عمران. كان يابسا، صموتا، دقيقا وكانت له سمة الضابط البروسي. كان يفضل الاستماع أكثر من التكلم ولذلك كان يجعل الأخرين يحسون وكانه يحصي عليهم كلماتهم ليستعملها ضدهم ذات يوم. كان ذكيا، ذا مبادىء، وله آراء واضحة اليسارية، و حين احتدم الصراع على السلطة قدّر له أن يكون منافس الأسد الرئيسي).
في 12/11/1963 صدر المرسوم 255 القاضي بترفيع صلاح جديد من رتبة مقدم الى رتبة لواء، وتسميته رئيسا للأركان العامة في الجيش الى جانب عضويته في القيادة القطرية للبعث.
"ان صعود نجم صلاح جديد في الحزب مطلع الستينات دفع الكثير من ابناء عشيرة الحدادين في منطقة جبلة ممن كانوا سابقا قد اتجهوا نحو الحزب السوري القومي الاجتماعي غيروا اتجاههم بحدة نحو حزب البعث كما يذكر الباحث حنا بطاطو في كتابه فلاحو سوريا و أبناء وجهائهم الريفيين الأقل شأنا".
في نهاية عام 1965 اشتعل الخلاف بين رئيس الدولة، والأمين القطري أمين الحافظ و رئيس الاركان والأمين القطري المساعد صلاح جديد وانقسم الحزب الى يمين يمثله الحافظ اضافة للقيادة التقليدية للحزب ويسار يمثله عسكريي الحزب اضافة لبعض السياسيين في الحزب.
يقول مروان حبش (إن وجهتي نظر كل من الرفيقين (الحافظ، جديد) اللتين طرحتا في المؤمر القطري تتلخصان في أن الفريق أمين الحافظ كان يتهم اللواء جديد بالتكتل الطائفي، و كان الفريق في اجتماع للتنظيم الحزبي العسكري عقد في منطقة المزة قال: (لن نسمح لأقلية بالسيطرة على البلد وسنغير ذلك بالقوة)، أما اللواء صلاح جديد فكان يرى أن الفريق أمين الحافظ (رئيس مجلس الرئاسة وقائد الجيش بدأ ينهج الفردية في قيادة الحكم، ويدير الدولة بعقلية عشائرية وبأسلوب كيفي).
مع تصاعد الخلافات قرر جديد مع رفاقه من الضباط عزل أمين الحافظ عن الرئاسة عبر انقلاب دموي كان الأعنف في تاريخ سوريا ومنذ 23 شباط 1966
يقول ابراهيم سلامة في كتابه البعث من المدارس الى الثكنات "كانت حركة شباط مفترقا تاريخيا حاسما في تاريخ البعث اذ انها و للمرة الاولى في تاريخ الأحزاب والمنظمات يقوم إنقلاب عسكري ليس ضد طبقة حاكمة أو حزب حاكم بل مجموعة حزبية حاكمة ضد مؤسسة الحزب وقائده طوال ثلاثين عام، فسيطر ((القطريون)) على مقاليد السلطة في داخل سوريا".
أصبح صلاح جديد الرجل الأول في سوريا وبصفته امينا عاما قطريا مساعدا للحزب، كانت الفرصة المؤتية ليمضي في تطبيق أفكاره اليسارية المتشددة فخفض من رواتب كبار موظفي الدولة وحول الدولة الى دولة العمال والفلاحين وصغار الكسبة، فنال بذلك سخط طبقة شيوخ العشائر والعائلات الصناعية والتجارية التقليدية.
يقول منيف الرزاز في كتابه التجربة المرة (لقد كان اللواء صلاح جديد بعد أن متّن قواعده في الجيش أذكى من أن يطرح السلاح الطائفي بل كان يستفيد من الطرح (السني) المعاكس ليثبت أنه أصدق حزبية و قومية من الذين يطرحون هذا الشعار، ومع ذلك فلست أدري أيهما أكبر جريمة: الذي يصنع الطائفية أم الذي يكشفها؟).
في عام 1968 بعد صراع أخر داخل أجهزة الدولة بين الأمين القطري صلاح جديد ووزير الدفاع حافظ الأسد خصوصا بعد هزيمة حزيران تصاعد الخلاف بين الرجلين، وعمل الاسد مستفيدا من مركزه العسكري على تصفية كل الموالين لصلاح جديد في الحزب والجيش وقلع جميع أظافره داخل السلطة قبل أن ينهيه الضربة القاضية باعتقال صلاح جديد نفسه وايداعه سجن المزة حتى وفاته.

كان يمكن لصلاح جديد أن يهرب الى موسكو نتيجة عرض تلقاه من السفير السوفييتي، لكنه أثر البقاء وتحمل ثمن مواقفه، وهنا يبدو الفرق شاسعا بين من تربى في قلب العواصف والمؤامرات والرياح السياسية المتقلبة، وبمن قدمت له السلطة على طبق من ذهب فغادرها هاربا حين انتهت المنافع!

Alaaeddin Taljbini

حكايا من التاريخ السوري