حكاية الجبل والدولة من القوتلي إلى الشيشكلي
شادي مكرم حجازي
في فجر استقلال سوريا، بين عامي ١٩٤٥ و١٩٤٦، كانت البلاد تعيش مخاضاً عسيراً، يمتزج فيه زهو السيادة بقلق عميق. لم يكن رحيل آخر جندي فرنسي نهاية للصراع، بل بداية لصراع من نوع آخر، صراع داخلي مرير حول هوية الدولة وشكلها. في قلب هذا المخاض، تصادمت رؤيتان: رؤية دمشق التي جسدها الرئيس شكري القوتلي، والتي حلمت بدولة مركزية حديثة، ورؤية جبل الدروز، معقل البأس والتمرد، الذي جسده زعيمه الأسطوري سلطان باشا الأطرش، والذي طالب بوطن رحب يعترف بتضحيات أبنائه ويحفظ لهم خصوصيتهم.
كانت الجمهورية الوليدة تقف على أرض رخوة، وأخطر نقاط ضعفها هو جيشها. لم يكن الجيش الذي ورثه القوتلي مؤسسة وطنية، بل كان تركة مسمومة من الانتداب الفرنسي. "قوات الشرق الخاصة"، كما كانت تُسمى، صُممت على مبدأ "فرّق تسد"، فتم إقصاء الأغلبية السنية وتجنيد الأقليات بكثافة. وهكذا، ورثت دمشق جيشاً غريباً عنها، لا تثق به ولا يثق بها. واجه القوتلي معضلة وجودية، فاختار الحل الوسط القاتل: أبقى على الجيش لكنه عمل على إضعافه وتقييد تسليحه، خشية أن يقوم بانقلاب. هذا القرار خلق فراغاً هائلاً في السلطة، وترك الدولة بلا أنياب حقيقية في مواجهة التحديات.
القوتلي والجبل: صدام النوايا
جاء أول اختبار لهذه الدولة الهشة عام ١٩٤٦. فعندما قدم زعماء الدروز مطالبهم بالحفاظ على درجة من الاستقلال المالي والعسكري، جاء رفض حكومة القوتلي قاطعاً. لم يكن الصدام مجرد خلاف سياسي، بل كان امتحاناً للقوة. وهنا، أطلق سلطان باشا الأطرش تهديده: إن قوة من أربعة آلاف محارب درزي تستطيع احتلال دمشق. لم يكن الرقم عفوياً، بل كان استحضاراً لذكرى سحقهم للجيش الفرنسي في معركة المزرعة. وصل الصدى إلى دمشق، حيث اعترف مستشار في وزارة الدفاع في مدكرة امريكية بأن الجيش السوري "عديم الفائدة"، وأن الدروز يمكنهم "الاستيلاء على دمشق وأسر قادة الحكومة في طرفة عين".
نجا القوتلي من تلك المواجهة لأن التهديد لم يُنفذ، لكنه لم يتعلم الدرس. ففي العام التالي، ١٩٤٧، انتقل من المواجهة السياسية إلى المكائد. في محاولة لكسر شوكة آل الأطرش، قامت حكومته بتمويل وتسليح فصائل درزية منافسة عُرفت بـ "الشعبيين". اندلعت في الجبل حرب أهلية مصغّرة، ووقفت فرق من الجيش السوري، بقيادة وزير الدفاع أحمد الشراباتي نفسه، على مقربة من ميدان المعركة قرب قرية بكا، تتفرج بصمت. كانت خطة القوتلي: أن يترك الدروز يقتتلون، فإذا ضعفت قوة آل الأطرش، يتدخل الجيش ويحتل الجبل.
لكن الرياح جرت بغير ما تشتهي سفنه. حسم آل الأطرش المعركة لصالحهم، وما كان من الجيش إلا أن انسحب بهدوء. لقد فشلت "مكيدة الجبل"، لكنها سمّمت العلاقات إلى الأبد، كانت هذه السنوات الأولى من عهد الاستقلال، بسلسلة أزماتها ومؤامراتها، هي التي مهدت الطريق للانقلابات العسكرية التي بدأت عام ١٩٤٩، وأتت برجل كان يراقب المشهد بصمت، وينتظر دوره.
الشيشكلي وصعود القبضة الحديدية
إذا كان القوتلي قد حاول ترويض الجبل بالمكائد والمناورات، فإن أديب الشيشكلي، الذي قبض على السلطة أواخر عام ١٩٤٩، قرر أن يقطع الرأس. لم يكن الشيشكلي، الضابط القادم من حماة، رجل مساومات. كان يحلم بتحويل سوريا إلى "بروسيا العرب"؛ دولة قوية، متجانسة، ذات جيش مهاب. وفي هذا المشروع، لا مكان للولاءات المتشعبة أو الجيوب المستقلة. وكان جبل الدروز بنظره يمثل كل ما يعارض حلمه: فهو معقل للزعامة التقليدية "الإقطاعية"، وبوابة للنفوذ الهاشمي المعادي له، ورمز للخصوصية الطائفية التي أراد محوها.
بدأت الحملة، ولم تكن حملة عسكرية فحسب، بل حصاراً شاملاً وممنهجاً.
أولاً، الخنق الاقتصادي. جفف الشيشكلي منابع ثروة آل الأطرش و عمل على تهميش الجبل بشكل كامل من الطفرة الاقتصادية التي شهدتها سوريا. فبينما كانت مشاريع الري تحول باقي المحافظات إلى أراضٍ خصبة، وتدخلها آلاف الجرارات والمضخات، تُرك الجبل يصارع جفافه وصخوره. كان الهدف سياسة متعمدة: جبلاً فقيراً، ضعيفاً، ومحتاجاً.
ثانياً، الاجتثاث الإداري. قام الشيشكلي بتطهير ممنهج لآل الأطرش وحلفائهم من كل المناصب الإدارية، وعيّن بدلاً منهم رجالاً موالين له من خارج المنطقة والطائفة. وفي موازاة ذلك، وضع الجبل تحت رقابة عسكرية لصيقة، فكان المشروع الوحيد الذي حظي به هو تعبيد طريق أسفلتي ممتاز، ليس لخدمة الأهالي، بل لتسهيل حركة الدبابات والقوات العسكرية.
ثالثاً، التطهير السياسي. امتدت يد الشيشكلي إلى كل مؤسسات الدولة، فعمل على إبعاد الدروز عن المناصب الحساسة في السلك الدبلوماسي، والأهم من ذلك، في الجيش. فبحلول عام ١٩٥٣، كان قد أحال كل الضباط الدروز برتبة عقيد إلى التقاعد، ولم يبقَ إلا واحداً تم نفيه إلى حامية دير الزور النائية، في خطوة سيثبت لاحقاً أنها كانت خطأه القاتل.
ثورة الجبل وسقوط الطاغية
بحلول عام ١٩٥٤، كان الغضب قد بلغ ذروته. وجاءت الشرارة باعتقال منصور الأطرش، نجل سلطان باشا. وعندما اندلعت الاحتجاجات في الجبل، كان رد الشيشكلي وحشياً. أرسل جيشاً قوامه عشرة آلاف جندي، وقصف بلدات بالمدفعية الثقيلة، وأطلق حملة إعلامية شرسة تتهم الدروز بالخيانة والعمالة لإسرائيل.
لقد سحق الشيشكلي التمرد المدني، لكنه في تلك اللحظة كتب نهايته. فالإهانة لم تكن موجهة للزعامات التقليدية فحسب، بل لكل ضابط وجندي درزي في الجيش. لقد خلق الشيشكلي بنفسه مصدر الثورة في أكثر الأماكن عزلة: في حامية دير الزور، حيث كان قد جمع الضباط الدروز المنفيين. هناك، في المنفى الصحراوي، نسج العقيد أمين أبو عساف والنقيب الشاب محمد الأطرش خيوط المؤامرة التي ستطيح به. ومن المفارقات العميقة أن محمد الأطرش لم ينجح في حشد باقي الضباط بسبب انتمائه الحزبي، بل بسبب وزنه العائلي، فقد كانت روابط الدم والزعامة التقليدية هي التي وحدت الانقلابيين.
في صباح ٢٥ فبراير ١٩٥٤، تحرك الجيش، وفرّ الشيشكلي. لقد سقط الطاغية الذي حكم بقبضة من حديد.
إرث النار والريبة
إن قصة العلاقة بين الدولة والجبل، من القوتلي إلى الشيشكلي، هي قصة التأسيس المتعثر للدولة السورية. لقد نجح الشيشكلي فيما فشل فيه القوتلي: كسر شوكة الانفصال الدرزي وتفكيك مؤسساتهم المستقلة إلى الأبد. لكنه، وبقسوته، لم يمحُ الهوية الدرزية، بل صقلها من جديد، وحوّلها من شكل تقليدي إلى وعي طائفي حاد ومسيّس، وشعور عميق بالمظلومية.
لقد أسس الشيشكلي لمنطق العنف في سياسات الدولة، وهو منطق سيرتد على سوريا لعقود. وبدلاً من أن تذوب الهويات القديمة في بوتقة القومية، تكيفت مع الدولة الجديدة، لتصبح ساحة الصراع الوطني هي ذاتها الحلبة التي تتصارع فيها الطوائف والمناطق على السلطة والنفوذ. لقد دخل الجبل عنوة إلى الدولة، لكن الدولة دخلت أيضاً إلى الجبل، وبقي كلاهما، منذ ذلك الحين، ينظر إلى الآخر بعين لا تخلو من ريبة، في إرث طويل من النار والدم والشك.
معظم التفاصيل من دراسة الدكتور جوشوا لانديس
SHISHAKLI AND THE DRUZES: INTEGRATION AND INTRANSIGENCE
Published in: T. Philipp & B. Schäbler, eds., The Syrian Land: Processes of Integration and Fragmentation. Stuttgart: Franz Steiner Verlag, 1998: 369-39
تعليق لعدنان بدر حلو: ملاحظة بسيطة عزيزي شادي:
لقد حصرت الدراسة الانقلاب على الشيشكلي بالبعد شبه الطائفي. علما انه بابعاده الأساسية انقلاب وطني لعب فيه الضباط الحمويون تحديدا وكذلك الحماصنة الدور الأساس.
التاريخ السوري