قراءة في تفجير كنيسة مار إلياس في الدويلعة: رسائل الدم في حرب الهويات
مروان حبش
في يوم مشوبٍ بالقلق، وفي لحظةٍ مشبعةٍ بالرمزية والتوقيت، هزّ تفجيرٌ دموي كنيسةَ مار إلياس الواقعة في حي الدويلعة بدمشق. الحي، المعروف بتركيبته السكانية المتنوعة دينياً وجهوياً. وكان مشهداً أعاد إلى الذاكرة صوراً من العراق، ولبنان، وحقب الصراع الطائفي الأشد قتامة.
بحسب تقرير للمركز السوري للدراسات الاستراتيجية (2025)، فإن هذا النوع من الاستهداف "يندرج ضمن استراتيجية ضرب الرموز التي تمثل تشابكاً بين المكونات، حيث تكون الضحية أكثر من مجرد هدف ديني أو طائفي، بل رسالة متعددة الأهداف". ويُقرأ استهداف الكنيسة، ويصبح الحي والكنيسة معاً - في عقلية هذه الجماعات المتطرفة - رمزين لعدوين في آنٍ واحد، على النحو التالي:
• للمسيحيين: "لا مكان لكم هنا ما لم تعتنقوا الإسلام وفق رؤيتنا المتشددة".
• للدولة: "فشلتم في حماية التنوع، ولن تبقى دمشق بمنأى عن النيران".
ولا بد من الإشارة إلى أن تفجير كنيسة في قلب العاصمة السورية، وفي حي متداخل طائفياً، له صدى اقليمي ودولي أيضاً. والرسالة هنا مزدوجة:
1-إلى الغرب: أن المسيحيين ليسوا في أمان، وأن النظام لا يستطيع حمايتهم، رغم ادعائه بذلك.
2-إلى الداخل السوري: أن الصراع لم يعد سياسياً فقط، بل وجودياً طائفياً ومذهبياً.
وقد يهدف ذلك إلى تأجيج التوترات الطائفية، أو استدراج ردود فعل انتقامية تزيد من تعقيد المشهد السوري.
إن استهداف الكنيسة إذاً هو إعلان صريح: "إما الإسلام كما نراه نحن، أو الموت، أو التهجير."
وهو نمط تكرر في عمليات مماثلة في بغداد، الموصل، طرابلس (لبنان)، حيث يكون الهدف مزيجاً من الرمزية الدينية والسياسية.
خلال مقابلة له مع قناة "الجزيرة مباشر" في أواخر 2024، قال أحمد الشرع (أبو محمد الجولاني):
"نحن لا نستهدف الأقليات الدينية، والمسيحيون إن عاشوا ضمن ضوابط الشريعة فهم جزء من مجتمعنا... ولا نمانع ببقائهم."
بينما منطق "من لا يُكفّر، يُعتبر مرتداً." " تبنته فصائل مثل "جند الشام" و"تنظيم حراس الدين"، والتي اتهمت هيئة تحرير الشام بـ "الانحراف والانبطاح للعلمانيين والصليبيين". وإن التفجير في الكنيسة هو بيان حرب ضد المسيحيين والمذاهب الإسلامية الأخرى في آنٍ معاً. إنه يضع تصوّراً واضحاً: إما الإسلام السلفي، أو الموت. وكل طيف خارج تلك الدائرة هو هدف مشروع."
في تصريح خاص لموقع "سوريا في العمق"، قال أحد القساوسة في منطقة باب توما، رافضاً الكشف عن اسمه: "ما جرى في الدويلعة ليس فقط اعتداءً على المسيحيين، بل إعلان واضح أن هناك من يريد إخراجنا من البلد... كل مرة تتحدث الدولة أو بعض الجهات عن التهدئة، يظهر هؤلاء بالدم لتخريبها."
وأشارت تقارير استخباراتية نشرتها مجلة Foreign Policy في مايو 2025 إلى أن "ثمة خلايا صغيرة تابعة لتنظيم داعش، أعادت تنظيم صفوفها في أرياف دمشق ودرعا، وتعمل على تنفيذ عمليات انتقائية ذات طابع رمزي".
كما نقلت صحيفة Le Monde الفرنسية عن مصادر أمنية سورية أن التحقيقات الأولية "تشير إلى تورط شخص قادم من شمال درعا، وقد بايع تنظيم داعش مؤخراً عبر قنوات تليغرام مغلقة".
وهذا يُشير إلى عودة محتملة لتنظيم داعش ولكن بشكل خلايا لامركزية، لا تركز على السيطرة على الأرض، بل على "الحرب الرمزية".
في المقابل، نشر مرصد الحريات الدينية الأميركي (USCIRF) بياناً قال فيه:
"تكرار استهداف الكنائس في سوريا والعراق يدعو للقلق من عودة خطاب العنف ضد الأقليات... المجتمع الدولي مطالب بخطوات أكبر لحماية من تبقّى من مسيحيي المشرق."
كما لوحظ صمت نسبي من المؤسسات الكنسية الكبرى، وربما ذلك تجنباً لتأجيج الوضع أو تجنب الاصطفاف السياسي.
ولم تُصدر الأمم المتحدة أو الاتحاد الأوروبي سوى بيانات مقتضبة تدين "استهداف دور العبادة"، دون وصف الحادث بأنه جريمة كراهية دينية أو تطهير ديني وطائفي.
لا يمكن فصل التفجير عن التصور الذي تحمله بعض الفصائل المسلحة عن سوريا المستقبل، والذي يقوم على إقامة "إمارة إسلامية سنية خالصة"، لا مكان فيها لطوائف أو مذاهب أو أديان أخرى. من هذا المنطلق، يصبح المسيحيون، والعلويون، والدروز، والشيعة، بل حتى السنة "غير الملتزمين"، جميعهم أهدافاً محتملة. واستهداف الكنيسة إذاً هو إعلان صريح: "إما الإسلام كما نراه نحن، أو الموت، أو التهجير."
والملاحظ أن هناك انقلاباً في السردية، فما الذي أراد المنفذون قوله بهذه الجريمة؟
أحمد الشرع، زعيم هيئة تحرير الشام (جبهة النصرة سابقاً)، الذي يبدو أنه دخل مؤخراً في مراجعات فكرية وسياسية، بدا من خلالها وكأنه يبتعد عن الخطاب التكفيري التقليدي. ويدعو لحماية مكونات الشعب في سوريا، ولو من دون ضمانات تنفيذية حقيقية، اعتُبرت خيانة من قبل التيارات الجهادية المتشددة الأخرى.
هذا الخطاب، الذي لاقى انتقادات حتى داخل هيئة تحرير الشام، عُدّ خروجاً عن أدبيات التنظيمات الجهادية التقليدية، وخاصة ممن يرون أن "الولاء والبراء" شرط الإيمان، وليس التعايش.
في هذا السياق، يُمكن اعتبار التفجير رسالة "ردع" وعقاب للشرع والتيار "المرن" في الجهادية السنية تراه تلك الجماعات قد خرج عن "الخط الجهادي. وهو رسالة للمسيحيين والمذاهب الإسلامية الأخرى. وهو تعبير عن تطور مقلق في مفهوم "العدو الداخلي" ضمن الأوساط المتطرفة "أنتم تهادنون الصليب، ونحن نحمله على سيوفنا، و"من لا يكفر فهو مرتد". وهو محاولة فرض مشروع إمارة دينية بالقوة، هذه الرؤية التي تتجاهل العهدة العمرية، كما تتجاهل تاريخ سوريا الغني بالتنوع الثقافي والديني، وتعتبر أن وجود أي ديانة أو طائفة أخرى غير أهل السنة هو تهديد لوجودها.
في هذا السياق، يصبح الاستهداف ليس للمسيحيين فقط، بل لخطاب "القبول" و"التعددية" ولو بشروط إسلامية، الذي يحاول البعض تمريره من داخل البنية الجهادية نفسها.
إذن، إن ما حدث في كنيسة مار إلياس ليس مجرد عمل إرهابي، بل هو:
-رفض لأي مسار نحو دولة مواطنة، أو حتى إسلامية "مرنة".
-تحدٍ لفكرة بقاء المسيحيين في سوريا.
-رفضٌ لمحاولات التعايش الديني ولو مشروطة.
-تأكيد على أن الحرب لم تعد فقط بين معارضة ونظام، بل بين رؤى متطرفة لمستقبل البلد.
-إحياءٌ لنظرية "دار الإسلام" مقابل "دار الكفر" في أرض الشام، بحسب التصورات السلفية الجهادية.
-تأكيد التصور الذي تحمله بعض الفصائل المسلحة عن سوريا المستقبل، والذي يقوم على إقامة "إمارة إسلامية سنية خالصة"، لا مكان فيها لطوائف أو مذاهب أو أديان أخرى. من هذا المنطلق، يصبح المسيحيون، والعلويون، والدروز، والشيعة، بل حتى السنة "غير الملتزمين"، جميعهم أهدافاً محتملة.
إن قراءة تفجير كنيسة مار إلياس تتطلب النظر إلى السياق الأوسع الذي يحدث فيه. إنه يمثل تحديًا كبيرًا للسلم الأهلي، وللجهود المبذولة لحماية الأقليات في سوريا. كما أنه يسلط الضوء على الصراع بين الأصوات المعتدلة والمتطرفة داخل المجتمع السوري. وفي نهاية المطاف، فإن هذا التفجير يعكس المخاطر الكبيرة التي تواجهها سوريا في سعيها نحو السلام والاستقرار في ظل تنوعها الثقافي والديني والإثني.
إن استهداف الكنيسة إذاً هو إعلان صريح: إما الإسلام كما نراه نحن، أو الموت، أو التهجير."
لم يكن هذا الحادث مجرد عملٍ إرهابي تقليدي معزول أو جريمة كراهية دينية فقط. فاختيار الهدف -كنيسة في حيّ فقير– يحمل دلالات مركبة ويعكس نيةً واضحة لإيصال رسائل داخلية وإقليمية. كما يحمل في طياته شيفرات معقدة لرسائل سياسية، مذهبية، وأيديولوجية، تتجاوز المكان والزمان لتصل إلى عمق النقاشات حول شكل سوريا المستقبل وهوية أهلها.
إن أخطر ما يمكن ملاحظته في هذا الحدث، أنه يُظهر أن الفكر التكفيري لم ينتهِ، رغم الضربات التي تعرضت لها داعش والنصرة، بل هو في طور إعادة التكوين. وبدلاً من السيطرة على أراضٍ كما في الماضي، بات هذا الفكر يسعى لإعادة فرض نفسه عبر التفجيرات الرمزية والرسائل الدموية. وإذا لم تتم مواجهة هذا الفكر، ليس فقط أمنياً، بل ثقافياً ودينياً وتعليمياً بشكل متكامل، فإن مستقبل سوريا قد يُرهن لصراع وجودي آخر، أكثر عنفاً، وأكثر تجذّراً في الهويات المغلقة.