"جمعية المرتضى".. حقول طائفيّة9
عبد الكريم الناعم
نصل الان، إلى "جمعية المرتضى"، بعد مطلع ثمانينات القرن الماضي، بدأنا نسمع عن جمعية اسمها "جمعيّة المرتضى" يرأسها جميل الأسد الأخ الشقيق للرئيس حافظ الأسد.
ولم تكن سمعة هذا الرجل تتناسب مع سمعة أخيه الرئيس، ووصل شيء من نشاطها إلى مدينة حمص، فوقف الناس الواعون من العلويين، على مختلف ثقافاتهم في وجه مثل هذا التوجّه وحاربوه، فلم يجدوا شخصا مرموقا، طيّب السمعة يستجيب، وكنتُ وعددا من هؤلاء قد وقفنا بحزم في وجه جمعيّة لها صفة طائفيّة، أذكر منهم على وجه الخصوص الدكتور الجراح جميل الحايك، والمحامي شعبان شاهين، الذي صار وزيرا للعدل فيما بعد، فانتسب إليها أعداد قليلة من البسطاء، أو الراغبين في الظهور، أو الذين خمّنّوا أنها قد تخدمهم في مسائل خاصة، فهم يعملون في جمعية يترأسها أخو الرئيس، وعُهد برئاستها في حمص لمساعد متقاعد من الجيش، وكان يلبس بدلة عسكرية مرقّطة، ولم يكن هذا اللباس قد شاع كما حصل فيما بعد، يذهب السيد المساعد لدوائر الدولة فتُفتَح له الأبواب، ويساعدونه في بعض طلباته، وبعد فترة اعتُمد رئيسا لها مواطن في حيّنا، لديه محلّ لبيع الموبيليا الجاهزة، وصار بعض الناس، من البسطاء، يلجؤون إليه في حلّ بعض المشاكل، وظلّ تأثيرها هامشيّاً في مختلف أحياء العلويين في حمص.
هنا من المهمّ الإشارة إلى أنّ بعض المناطق أقبلت على الانضمام لهذه الجمعيّة، في مناطق معروفة بأنها مناطق سنيّة بحتة، وربّما قدّر الناس أنّ مثل هذا النشاط لا يمكن أن يحدث دون موافقة من الرئيس حافظ الأسد، والناس كما قيل قديماً، على دين ملوكها، فعلى سبيل المثال، حدث في بلدة "طيّبة الإمام"، تقع في الشمال الغربي من مدينة حماه، وهي بلدة مشهود لها بالتعصّب المذهبي السنّي.. فيها صعد مؤذّن في إحدى المرّات، وأذّن، وذكر في الأذان لفظة "حيّا على خير العمل" والمعروف أنّ هذه المفردة منذ أن ألغاها عمر بن الخطاب،(ر).. لا يؤذَن بها في مساجد السنّة، وكادت تقع مجزرة بين أهل تلك القرية.
كان جميل الأسد يُرسل من يستدعي وجهاء المناطق من انحاء سورية، وشيوخ عشائر ويجتمع إليهم، ويحدّثهم عن الوطن، والوحدة الوطنيّة.
في تلك الفترة كان محمد إبراهيم العلي، قائد الجيش الشعبي من الذين استجابوا لدعوة جميل الأسد، وللعلي سمعته الطيبة، وعلاقاته الواسعة في أوساط البدو، والأرياف، وحتى في مدينة "حماه".
زارني العلي، وما كان يمرّ بحمص دون أن يزورني، أو يتصل بي من مقرّ قيادة الجيش الشعبي في حمص، فأذهب إليه،.. زارني وتعرّضنا لهذه الجمعيّة، وقلت له: "يا خال.. هذه الجمعيّة لن تمرّ، وستترك أصداء سلبية، وسيجد الرئيس الأسد نفسه أمام ضرورة اتّخاذ موقف ما، وبالتأكيد لن يضحّي بأخيه، وستكون أنت كبش الفداء"، فقال: "ماذا لهم عندي؟! هذه السيارة التي أركبها، والموقع الذي أنا فيه، فليأخذوه أيضا"، وحين كان لا بدّ من اتخاذ خطوة، كما توقّعت، كان أن أُبعِد العلي عن قيادة الجيش الشعبي لعدّة أشهر، ثمّ أعيد إلى موقعه.
في سهرة لطيفة جمعتْنا مع بعض الأصدقاء، تمنّوا لو أنّ أحداً يسافر إلى "القرداحة"، ليطّلع على بعض المجريات عن قرب، وشاءت المصادفة أن يكون بين الموجودين، صديق عائد من الجزائر، وقد اشترى سيارة، وظنّ أنّه يستطيع عن طريق جميل الأسد أن يحصل على لوحة لها، فيرتاح من دفع الجمرك، فقلتُ له سأسافر معك.
ذهبنا إلى "القرداحة" دون أن يعرفني أحد، ووصلناها مساء، وصادف أن كان هناك اجتماع لفروع الجمعية في تلك المناطق، كان الاجتماع في مسجد "الشيخ موسي"، وقد غصّ المسجد بالناس، شبابا وشابات ورجالا، وجلسنا في الصفّ الأول، وكان جميل الأسد يجلس مواجها الجميع، ويضع عباءة عربيّة مقصّبَة فوق البزة الفرنجية التي يرتديها، وعلى يمينه شاب، قيل إنّه خريج جامعي، وكلّما أراد جميل الأسد أن يُشعل سيكارة، يُخرج هذا الشاب قداحته، ويُشعلها له، بدأ المجتمعون بحسب الطلب منهم يتكلّمون، في القرية الفلانيّة أقاموا جدارا يسند التربة، وفي الثانية أجروا مصالحة بين فريقين، وفي الثالثة قاموا برفع ساتر يدرأ السيول، وهكذا، وحين يريد جميل الأسد التكلّم يتكلّم بصوت خفيض للشاب الذي يشعل له السيكارة، فيرفع الشاب صوته ويقول: "السيد الرئيس يقول لكم كذا".
صديقي الذي يريد لوحة لسيارته، في مرّة ثانية قابل السيد جميل الأسد، وشرح له وضعه، فقال له: "سجّل السيارة باسم الجمعيّة، وسنؤمّن لك لوحة، ونعطيك إياها تركبها"، صمت صاحبنا، ووعد أن يعود، ولم يعد، لأنّه أدرك أن السيارة حين تُسجّل باسم الجمعيّة فإنها تصبح ملْكها، ويأخذونها منه متى شاؤوا.
*ذات يوم زارني اثنان، أحدهما أعرف عنه أنّه كان من أنشط الناشطين لصالح الحزب الشيوعي في ريف مصياف، والآخر لا أعرفه، رحّبت بهما، وقمت لإحضار القهوة، وحين عدت وجدت الرفيق الشيوعي نائما بعمق، فقد بدا عليه التعب، الأخ الذي معه كلّمني بلغة الواثق وقال: "أستاذ عبد الكريم يبدو أنّ أحد أبنائك قد أخذ سيارتك، فلم أشاهدها على الباب"، ابتسمتُ وقلت له: "ومَن قال لك إني أملك سيارة؟!! هل شاهدتَ موظّفا نظيف اليد يملك سيارة"؟!! بدت على وجهه ملامح مفتعَلة وقال: "معقول؟!! أنت وسًمعتك، وأقلّ من سيارة مرسيدس 200؟!! فهمتُ الإشارة، والمغزى، فحوّلت الحديث باتجاه آخر، ففاتحني بالعمل في الجمعيّة، فقلت له بصراحة: "أنا بدأتُ حياتي مناضلا من أجل الوحدة، والتقدّم، والعدالة الاجتماعية، والتحرّر، ووحدة المجتمع، وتخليصه من معوّقاته، ولا أريد أن أنهي حياتي في جمعيّة ذات صبغة طائفيّة".
*اليك هذه الحادثة الطريفة، زارني صديق بدوي يعيش في عمق البادية، فرحّبت به، وبعد تقديم الضيافة سألته عمّا إذا كان له أيّ موضوع يحتاج للمساعدة، فقال: "لا والله، أنا مسافر للقرداحة"، استغربت قلت ومَن لك في القرداحة"؟ فقال: "الأستاذ جميل أرسل مَن يدعونا للاجتماع به"، رجوته حين يعود أن يزورني، وأكّدت على ذلك، وبعد يوم واحد عاد صديقنا البدوي، فسألتُه: "اشرح لي كل ما حدث"، فقال متعجّبا بلهجته البدوية: "إيش أقول لك، رشّ التراب لا يجيء إلّا على رؤوس الخلق، وينادون بالمايكروفون أهل "مورك"، فيتقدّمون، أهل كذا.. أهل كذا.. وبعدها جاء دورنا أهل البادية فدخلنا ساحة واسعة، وصار يتكلّم الأستاذ جميل إنّ نحن في سورية كلّنا أخوة، وأبناء عمومة، ناس سكنت البادية، وناس سكنت الجبل، وناس سكنت المدينة، المفروض كلنا يد واحدة، وأن نكون عائلة واحدة، وأبناء وطن واحد، وذكر اسم إمام والله ما أدري إيش اسمو"، قاطعتُه: "الامام المرتضى"، وكمن عثر على ضالّته.. قال بدهشة بلهجته: "إي.. إي.. إي.. إي والله هاد هو، هاد هو..".
*الذي يمكن استنتاجه أنّ ثمّة أصداء سلبيّة قد نُقلت للسيد الرئيس حافظ الأسد، فأوعز بالتوقّف عن نشاطاتها، وكما انبثقت انطفأت، وكأنها لم تكن.
...................................................
أرسل بتاريخ 3/10/2024