حقول طائفيّة 8

عبد الكريم الناعم

*وهذا حقل له خصوصيته، في فضاء تلك الحقول، وهو خاص بالطائفة المرشدية، وأنت يا صديقي تعرف الكثير، فقد قرأت مقدمتك الوافية، لكتاب "شعاع قبل الفجر"، الذي وضع النقاط على الحروف في مسألة تحتاج للإنصاف، بغض النظر عن معتقدات تلك الطائفة، مهما اختلفنا معها، وخاصة ما يتعلّق بمسألة الوطنية وعدمها، وقد نُقل أنّ المناضل والمحارب الكبير الشيخ صالح العلي رحمه الله، قد نصح الرئيس القوتّلي، رئيس الجمهورية السورية آنذاك،.. نصح بعدم إعدام المرشد، ولكنّ القوتلي الذي كان حريصا على عدم التوقيع على إعدام أيّ محكوم، وقّع على إعدام سلمان المرشد خلال أربع وعشرين ساعة، لأسباب ما تزال مجهولة، وأعدم بجرم قتْله لزوجته، لا لخيانة تتعلّق بالوطن.
*طائفة المرشديين، تنتمي أصلا إلى فخذ من عشيرة يُسمّى "البنّاويّة"، وهم موجودون الآن في سورية في قسم كبير من مساحة "الغاب"، متّصلا بـ"شطحة" وما حولها، وصولا عبر تلك الجبال إلى حدود ناحية "المزيرعة" التابعة لللاذقية، غربا، وهم في محافظة حمص، موجودون في قسم من ناحية "شين"، وفي قريتين تقعان قرب بحيرة "قطّينة"، وفي نصف قرية من قرى الجفتلك، ولهم امتداد حتى جنوب سورية المتاخم لفلسطين في قريتي "زعورة" و"عين فيت" المحتلتين حاليا من إسرائيل.
*تتميّز هذه الطائفة بدقّة تنظيمها، وبالتزام من ينتمي إليها، ولا نعرف إلّا التخمين فيما يتعلّق بخصائصهم التنظيمية، رغم أنّهم يشكّلون كتلة فيما يسمى حي "وادي الدهب" في حمص.
أفراد هذه الطائفة كانوا صلبين حين اعتُقلوا أيام عبد الناصر، وصبروا على التعذيب، في مقابل أن يشتموا أيّاً من أسماء من يعتبرونهم قادة روحيين لهم، فرفضوا.
*بعد انقلاب الثامن من آذار 1963 ذهبْت برفقة وفد من الحزب، وكان كبيرا، أذكر منهم نور الدين الأتاسي، وإبراهيم ماخوس، ومحمد إبراهيم العلي، واتّجهنا إلى مناطقهم الجبليّة العصيّة، حتى أنّ السيارات توقّفت ومشينا على الأقدام مسافة أكثر من كيلو متر تقريبا، في طريق ضيّق، لا يتّسع لأكثر من اثنين بصعوبة، وكان يسند بعضنا بعضا، وكان أدلاؤنا يصرّون على زيارة موقع خاص، وحين وصلنا وجدنا ثكنة صغيرة، في رأس جبل شاهق، وهناك شرح لنا أحدهم أنّهم كانوا يُعذَبون في هذه الثكنة، وأنّ أحد قادتهم قال لهم ما معناه، في هذا الموضع الذي تُعذَبون فيه سيكون لكم مصدر تقدير واحترام، واعتبروا زيارتنا تحقيقا لتلك النبوءة.
*ذكر لي المرحوم محمد إبراهيم العلي أنّه كان ذات مرّة عائداَ من اللاذقية عن طريق "صلنفة"، وحين مرّ بإحدى القرى المرشديّة وجد أهل هذه القرية، رجالا، ونساء، وأطفالا، تسوقهم دورية من رجال الشرطة سوقا عنيفا، فاقترب منهم، فوجد على رأس الدوريّة ضابطا برتبة رائد، فسأله لماذا تسوقون كل هؤلاء، فأجابه أنّ ثمّة مطلوبا من هذه القرية بمخالفة، وأنهم يسوقون أهل القرية يوميا، سيرا على الأقدام، ويوقفونهم في العراء حتى قرب غياب الشمس، فيطلقون سراحهم، وفي اليوم التالي يعودون لسوقهم من جديد حتى يسلّم نفسه المطلوب، فقال له: "هذا مخالف للقوانين"، فأجابه نحن منذ زمن نتعامل مع هؤلاء بهذه الطريقة، فقال له العلي: "اتركهم وشأنهم"، فأجابه: "لن أتركهم"، فرد العلي بغضب "أنا فلان نائب قائد الحرس القومي، اتركهم وإلّا جعلتك عبرة لغيرك"، والتفت إلى أهل القرية وقال لهم: "إذا جاءكم أحد غداً لسوقكم كما يفعلون فاقتلوه وقولوا هكذا قال لنا محمد إبراهيم العلي"، وأعادهم إلى قريتهم، وفور عودته أثار هذه المسألة، فقرّرت القيادة التدخل وأن يُعامَل هؤلاء كغيرهم في كلّ ما يتعلّق بشأنهم، فحفظ له المرشديّون هذا التصرّف، وكانوا يحترمونه، ولا يردّون له طلباً.
*حين تأزّمت الأمور بين الرئيس حافظ الأسد وشقيقه رفعت الأسد، وكان محمد إبراهيم العلي قد نُحّي عن قيادة الجيش الشعبي، لسبب سأذكره حين أصل إلى جمعية المرتضى، وبقي بلا أية مسؤولية في بيته قرابة ثلاثة أشهر، وبعدها استقبله الرئيس الأسد، وأعاده إلى منصبه كقائد للجيش الشعبي، برتبة وزير.. حين تأزّمت.. وأروي ما سمعتُه منه، كان جالسا في مكتبه فاتصل به رئيس أركان الجيش اللواء حكت الشهابي، وقال له: "الرئيس يطلب منك أن تذهب إلى قادة المرشديين، ليوصلوا أوامرهم لعناصرهم الموجودة في سرايا الدفاع، بألّا يستجيبوا لما يطلبه منهم رفعت"، أجابه بما معناه سيادة اللواء، لقد أخطأتُ مرة، ولن أكررها، أريد أن أسمع ذلك من السيد الرئيس"، فاستغرب الشهابي الإجابة، فقال له أنا الشهابي: "هل تعتقد أني أنقل عن الرئيس شيئا لم يقله؟"، فأصرّ العلي على أن يسمع صوت الرئيس، و بعد دقائق اتصل الرئيس بالعلي وقال له اعمل ما قاله لك الشهابي،
هنا لابدّ من العودة إلى بداية تشكيل قوات سرايا الدفاع، فقد أرسل رفعت الأسد ضباطا الى الجبال، وشجّعوا الشباب على التطوّع، وأنّ لهم من الفائدة المادية ما ليس لبقية أفراد القوات المسلّحة، فانتسبت أعداد كبيرة من الطائفة المرشديّة، وهؤلاء حين تصدر لهم الأوامر من قادتهم الروحيين، فإنّهم لا ينفّذون غيرها.
كان وقت اتصال الرئيس بالعلي مساء، فانطلق العلي من فوره باتجاه "شطْحة" حيث يقيم أبناء المرشد، وأبلغهم رغبة الرئيس الأسد، وأعطوه وعداً بذلك، وعاد العلي إلى دمشق، فوصلها بعد منتصف الليل بقليل، فاتّصل بالشهابي، وقال له بلّغ السيد الرئيس أنّ الأمور كما يحب، فاستغرب الشهابي السرعة التي تم بها الأمر، وقال له ما معناه: "محمد أنا سأخبر الرئيس، فهل أنت متأكّد"؟!! فأجابه أنا المسؤول، وهكذا تمّ اكتساب المرشديين في السرايا.
.....................................................
أرسل في 2/11/2024