معتقل ٱخر في كرمخت
إياد ابراهيم
بعد شهر تقريبا من صدور الحكم بحقي لمدة ثلاث سنوات تضاعف بأمر القائد العام بجريمة القيام بما من شأنه "اضعاف روح النظام وعدم الطاعة للقادة والاحترام الواجب لهم...."، بعد شهر من صدور هذا الحكم أخبرني رفاق الزنزانة أن رجلا جيئ به بـ"جريمتك" نفسها، فذهبت فورا للتعرف على هذا المعتقل الجديد، كان اسمه سليم اسكندر، ضابط طيار برتبة عقيد تقاعد في مطار صوران بحماه، وجدته رجلا خمسيني محترما مثقفا، يتمتع بدرجة عالية من الحساسية جعلت منه شاعرا، قرأ على مسمعي عدداً من القصائد التي دبجها بإتقان، تضمنت وصفا للمخلوع ووالده وتشريحا لأخلاقهم الفاسدة المتوارثة، كان يهمس لي بتلك القصائد كلما سمعنا خبرا عن عفو مع ابتسامة ساخرة تعبر عن عدم ثقته بأن يصدر أي خير عن هذا "الكر" كما كان يحب وصفه.
روى لي قصة اعتقاله، فقد كان عائدا من الشاطئ مع ولده وابنته الصغيرين بعد ساعات قضوها على شاطئ البحر في اللاذقية عندما أحاط به عدد كبير من الجنود المدججين بالسلاح وقيدوه أمام ولديه وساقوه بثياب السباحة "شورت وفانيللا" الى فرع الأمن الجنائي، خضع للتحقيق عشرة أيام ثم تم نقله الى الطاحونة في دمشق ليمضي أسبوعين تحت التحقيق، نقل بعدها إلى سجن عدرا.
لم يكن سليم مقتنعا بأنه سيحكم مثلي ستة سنوات، اعتبر أن التهم الموجهة له لا تستوجب التوقيف إطلاقا، فتهمته كانت متابعة صفحة "نور حلب" والتعليق بـ"لايك".. راعيت حساسيته وتمنيت له أن لا يتعرض للحكم نفسه.
بعد أسبوعين سيق خلالهما عدة مرات الى المحكمة العسكرية، أخبرني أن القاضي سينطق بالحكم في الجلسة التالية، وكان يستعجل ذلك متأملا أنه سيحصل على قرار بالترك، لكنه عاد من تلك الجلسة منهارا .. لم يتمكن حتى من اخباري بما جرى، عند المساء تعرض لنوبة رجفان واقياء فأخذناه الى طبيب السجن، كالعادة أعطاه مهدءا وأعاده إلى الزنزانة، في اليوم التالي استطاع أن يلتقط أنفاسه، أخبرني ودموعه تغرق وجهه أن القاضي العسكري فهد الأحمد وجه إليه الاتهام نفسه الذي نالني، "وهو القاضي ذاته الذي حكمني"، لكن سليم شتم القاضي وشتم المحكمة وشتم الرئيس والدولة التي لا تحترم الناس ولا تقيم قدرا لرتبة ضابط، فنال عقوبة إضافية ستة أشهر بتهمة تحقير المحكمة.
رغم جميع المحاولات رفض سليم الحركة بقي مستلقيا على سريره، رفض الكلام لم يتحدث إلى أحد غيري، كان يردد أمرين "هالأولاد كيف بدن يعيشو، من وين بدن يصرفو" ودعاء "الله ينتقم منك، الله يذلك"، رفض تناول الطعام، كنت أجبره أحيانا على بعض اللقيمات، كان فقط يطلب حبة الضغط وشربة ماء، بقي على هذا الحال أسبوعين ونحن نحاول حث إدارة السجن لنقله الى المشفى دون استجابة، إلى أن انهار كليا، فقد السيطرة على مصرّاته، وثقل فمه ورمى رأسه وغص بالأنفاس، وضعناه في بطانية وحملته مع عدة نزلاء الى مستوصف السجن، حاولت البقاء معه لكني منعت من ذلك..
اختفى سليم، لم نستطع التحقق من مصيره، تباينت المعلومات بين من يقول انه نقل الى مشفى ابن النفيس، وٱخر قال انه في مشفى السجن..
بعد أسبوعين تقريبا أخبرني رئيس الزنزانة أن التعليمات جاءته بشطب اسم سليم من القوائم، حاولت الاستفسار عنه، فقيل لي أنه توفى على أثر إصابته بالكورونا...
علما كنت احتضن رأسه وألقمه ولم أصب بالعدوى..!
رحمك الله يا سليم اسكندر، ربما تهنأ حيث أنت إذا أخبرتك أن الله استجاب دعاءك الذي كنت تكرره طوال الوقت "الله يذللو وينتقم منو"...