كــــــلــــمة و رؤيــــــــا

الميدان (الحي الدمشق الجنوبي) بين الماضي والحاضر

د. عبد الله حنا- فينكس:

تحت هذا العنوان كتب الدارس صلاح الدين نوناتي (من مواليد الميدان 1959، وهو عامل في المؤسسة العامة الاستهلاكية / الإدارة العامة / محاسبة. والده من مواليد 1926 موظف متقاعد) ما سمعه في مضافة الشيخ محمد الأشمر، ننقله كما كتبه:
يعتبر حي الميدان بمدينة دمشق من أقدم أحياء العاصمة، ويعتز سكانه الأصليون الذين ولدوا ونشأوا به بأنهم ميادنة. اعتزازهم هذا ينبع من عقيدة ترسخت بنفوسهم وتوارثوها بالفطرة عن آبائهم وأجدادهم، وسبب هذا الاعتزاز هو عقيدتهم الراسخة بأن لأهالي حي الميدان "المجاهد" دور كبير وشأن عظيم بحصول سوريا على استقلالها عندما كانت ترزح تحت وطأة الفرنسيين. فهم الثوار، وهم من ساعد الثوار وقدم لهم السلاح والمال، ومنهم خرج المجاهد الشيخ محمد الأشمر.
من خلال جلساتي مع أناس متقدمين بالعمر أو الجلوس بالمضافة وسماعي لقصص الماضي الغابر، خرجت بهذا الموضوع الذي اعتمدت فيه على هذه الأحاديث العامة والتي ليست محصورة بشخص معين.
و يعتبر حي الميدان من الناحية الجغرافية من أقرب الأحياء إلى حوران، وكان لهذا التقارب دوراً اقتصادياً كبيراً، فتطورت علاقات العمل والعلاقات الإنتاجية بين أهالي حوران الفقراء (الفلاحين) وبين بعض زعماء الحي (الإقطاعيين) الذين يملكون ثروة جيدة.
حوران، كما هو معروف، تعتبر مصدر لمادة الحبوب في أيام الموسم الجيد. لذا نرى حي الميدان هو المستثمر والموزع لهذه المادة.
ومن خلال الأحاديث المتوارثة عن الآباء والأجداد، أنه أيام الاحتلال الفرنسي وقبله كانت بعض العائلات الغنية صاحبة النفوذ بالميدان تملك أراضي شاسعة المساحة في حوران. هذه الفئة الإقطاعية تقطن بالمدينة، وتستخدم الفلاحين لزراعة هذه الأراضي مقابل جزء من المحصول يسد رمق عيشهم. وكانت فئة ثانية لا تملك الأراضي ولكنها تملك المال والثروة، وكانت هذه الفئة البرجوازية تعتمد على المالكين الصغار، الذين يملكون أراض صغيرة، ولكنهم لا يملكون المال، ويتم الاتفاق بينهم على أن يكون البرجوازي الميداني هو الممول للزراعة، وأما الفلاح الحوراني الفقير المالك للأرض هو العامل مقابل أن يتم بيع المحصول للبرجوازي الميداني، بعد أن يسدد المبلغ الذي اقترضه من البرجوازي. إن كان الموسم خيراً ووفيراً، اشترى البرجوازي الميداني (الممول) المحصول كله وبالسعر الذي يحدده هو، لأن أهالي الميدان يعتبرون أنفسهم من أصحاب التقى والورع وإنهم لم يتعاملوا بالربا والفائدة على المبالغ التي يقرضونها للمزارعين. لكن بطريقة تحديد سعر المحصول بالسعر الذي يريدونه يحصلون على أرباح خيالية. وإذا كان الموسم سيئاً ولا يستطيع الفلاح الحوراني الوفاء بالدين، فإنه يعمد إلى تكرار عملية الدين والاقتراض مرة ثانية وثالثة، إلى أن تثقل كاهله الديون، فما يصبح باليد حيلة الوفاء تحت ضغط مطالبة البرجوازي الميداني الممول إلا بسداد الديون. عند ذلك يضطر لبيعة الأرض التي يعمل بها. فينتقل بدوره إلى فلاح (مسخر) سيئ فقَدَ أرضه، وبالتالي يزداد نفوذ الممول الميداني وينضم لفئة الإقطاعيين. فتزداد التناحرات والمضاربات وتتعدد أساليب النفوذ والهيمنة.
***
تحدث أحد الجالسين بالمضافة -وتقريباً يناهز السبعين من عمره- بالآتي:
رجل يدعى الآغا سكر (متوفي)، ويعتبر هذا الآغا من أكبر الإقطاعيين والأغنياء آنذاك (في عهد الفرنسيين) بالميدان، وله رجاله الخاصة به. ذات يوم عقد العزم على شراء مساحة من الأراضي في حوران فرفض الفلاح بيعها له، وتعامل الفلاح مع تاجر آخر واستقرض منه الليرات الذهبية بغية الإعاشة بها، ريثما يجني المحصول ويردها له ويبيعه المحصول. فانزعج الآغا من الفلاح والتاجر الذي أقرضه المال، فما كان منه إلا أن اتفق مع الفلاحين المجاورين لهذا الفلاح على تدمير ذلك الفلاح بشتى الوسائل، مثل حرق المحصول وقطع المياه والسرقة والنهب الخ... ولم يكن يكتفي بذلك وانتظر حلول الموسم وشراء المحصول، واتفق أيضا مع كبار الإقطاعيين من أمثاله لوضع سعر رخيص جداً لهذا المحصول بحيث لا يستطيع الفلاح الوفاء بالدين، مما اضطره بالنهاية إلى أن عرض أرضه على التاجر الذي أقرضه المال لبيعها. إلا أن الآغا سكر لم يطب له هذا الأمر، فدفع له سعراً أعلى مما دفعه التاجر وحصل على الأرض.
ورغم كل هذه الأمور والعلاقات الإقطاعية، إلا أن أهالي الميدان كانوا ينظرون إلى الآغا نظرة ثورية، فهو يحارب الفرنسيين ويعاديهم. فكلمته بالحي آنذاك لا تصبح اثنتان، حتى أنه هو الذي كان يعين المختار أو ينحيه، لحكم علاقته المتينة مع الحكومة. كما أنه كان يعمد إلى إطعام بعض الجماعات الفقيرة ويقدم لهم المساعدة بغرض شرائهم. كما أنه كان يستحوذ على أنصاره من خلال الدين باعتبار أهالي الميدان متعصبون جدا، مع العلم بأنه حين خلوته مع أعوانه لا يمتنعون عن ممارسة المحرمات وقضاء الشهوات، إلى أن فضح أمره الشيخ محمد الأشمر، فخلقت النزعة بين أهالي الميدان الفوقاني بزعامة الأشمر والميدان التحتاني بزعامة الآغا سكر. فالأشمر يحارب الفرنسيين، والآغا كذلك، وإنما بشكل آخر، محاربة خارجية إذاعية ظاهرية، وإنما كانت تربطه معهم علاقات الود والسيطرة والنفوذ. هذا من ناحية علاقات الإنتاج.
أما من ناحية العلاقات الاجتماعية بين أهالي حي الميدان وطيدة بسيطة، فحسب أقوال المسنين بالعمر، لا يمكن لإنسان غير قاطن بالحي أن يتردد على هذا الحي بغير غرض. كان أهالي الميدان متكاتفين متعاضدين متآخين إلى أبعد الحدود. فالمضافات كانت قائمة والسهرات والزيارات، إنما على الطريقة الميدانية. فالزوجة للبيت متى تزوجت، لا يجوز أن تخرج منه إلا إلى مقبرة الباب الصغير، فكانوا يقولون (من الباب للباب) أي من باب الدار إلى الباب الصغير أي المقبرة. كما كان أيام زمان علائم الإقدام ربما الخوف، فكان عندما يمر زعيم الحي أو الآغا لا يمكن لإنسان أن يظل جالسا أو يسبقه بالسير إلا أن ينقطع عن الأنظار. ولعبت الآغوات دوراً كبيراً بالانتخابات البرلمانية، فلا يجوز لإنسان أن يصبح عضواً في البرلمان أو له سلطة بالدولة إلا بعد حصوله على موافقة الآغا. وكل ذلك بثمنه، إما زواج أو مال أو ما شابه ذلك. حتى الزواج كان يتم عن طريق مباركة الآغا لهذا الزواج، وكانت مباركته وموافقته مطلوبة قبل أهل الفتاة.
لقد لعب الدِين دوراً كبيراً في الحياة الاجتماعية لأهل الميدان، فبلغت درجة تمسكهم بالدين إلى درجة أنه لا يجرؤ أي إنسان من غير أهالي الميدان أن يزوج (كلمة غير مقروءة) الشباب الميادنة فكان المثل يطلق عليه (خد منهم ولا تعطيهم) لأنه لم تكن أي فتاة من غير الميدان أن تتأقلم معهم بينما يرغبون بتزويج ( كلمة غير مقروءة) الميدان ويرضون مصاهرته ويقال عنهم أصحاب الجود والكرم أصحاب الدين والشرف. الشاب الميداني يتباه ويفتخر بأنه من أهالي الميدان ومن جماعة الشيخ حسن، الأب الروحي لأهالي الميدان آنذاك. إن مظاهر التمسك بالدين ظاهرة الوضوح عند أهل الميدان آنذاك. فما أجمل يوم عودة أحد الناس من الحج، فتقام الأفراح والليالي السامرة والأناشيد. يوم العيد تقام الولائم وتنحر الخراف وتتم الزيارات الخاصة بالعيد، ولكل أبناء الحارة منها لحارة أخرى إلى أن تشمل كافة الحي، فالآغا والزعيم بالمقدمة وخلفه كافة رجاله يزورون الحارة الثانية ويستقبلهم الآغا والزعيم الآخر وهكذا. كما أن مظهر النساء الميدانيات يوحي بذلك التعصب الديني، فيقولون "الميداني، التحتاني أطول من الفوقاني" ويقصدون بذلك أن اللباس الداخلي يبلغ من الطول أكثر من الملاية الأم.
كل ما سبق يعود لأكثر من مائة عام إلى الوراء. أما الآن تغير الواقع وذهبت الآغوات والزعامات وتبعثر أهالي الحي في كل المدينة، وانطلق أهالي الحي إلى الحياة. وربما أكثر من اللازم، وسبب ذلك الكبت والضغط الذي كان يمارس على النساء أعطى الآن مفعوله العكسي، فالكثيرات من نساء الميدان تحررن من سلوكهن الذي كان مفروضاً عليهن وانجرفن وراء التيارات الحالية، ومنهن من بقيت على حالها وسارت خطوات بطيئة جداً نحو الحياة الحالية.
كما نجد بعض الجماعات الناشئة التي ورثت المال عن آبائها وأجدادها أنشؤا العمارات الحديثة بدلاً من دورهم السابقة (العربية)، وحافظوا على حق الجار، ومنهم من فرقتهم شوارع التنظيم والاستملاك الحكومي.
نجد الموضوع السابق لا يمت بأي صلة للحركة العمالية والنقابية في الميدان، وإنما هو ظاهرة اجتماعية وإن كان فيه بعض النواحي لعلاقات الفلاحين بالإقطاع آنذاك.
تمت موافقة الدكتور عبد الله حنا على كتابة هذا الموضوع الذي استوفيته نتيجة عدة زيارات لمضافة الأشمر بالميدان. وإن كنت لا أكتب أثناء جلوسي في المضافة لأنني لو كتبت أمام المتحدثين، لما خرجت سالماً من المضافة، فيحسبون لذلك ألف حساب. كنت أعمد إلى حفظ ذلك وتدوينه بالدار. إن جميع من تكلموا يقال لهم أبو مهند وأبو صطيف، حجي، خالي، معلمي، لا أعرف سوى أسمائهم هذه. كانوا يتكلمون بحماس شديد، والظاهر أنهم من الميدان التحتاني والفوقاني ولم يختلفوا!
إلى الدكتور عبد الله : كنت أود أن أكتب موضوعاً عن الدباغات وهذه المهنة مع العلم أنني كنت أعمل محاسب لدى أحد الورشات الخاصة بالدباغات. وعندما طلبت منه المعلومات الواردة بالنشرة فما كان منه إلا أن طردني من العمل واستغنى عن عملي، فحُرمت من 300 ليرة شهرياً فمن يعوض لي ذلك يا دكتور؟( ) 
حكايات القرية
العباسيون والنصارى
فصل من مخطوطة ذكريات: المشتى في خمسينات القرن العشرين
في ذكرى استشهاد أمير المؤمنين علي بن أبي طالب
القبطان جاك سبارو (المسلم) الذي شوهت أفلام هوليوود شخصيته
مشكلة تدوين التاريخ العربي (والقصة الخرافية لبناء الجامع الأموي من قبل البيزنطيين مثالاً)
لمحة في تاريخ "انطاكيا".. المدينة والكنيسة
حدود الحي المسيحي بدمشق داخل السور قبل القرن الخامس عشر الميلادي وبعده
من نهفات بعض المؤسسات الكارهة للسوريين
بمناسبة 8 مارس يوم المرأة العالمي.. الاستثمار في النظام الذكوري
الحقيقة حول اختلاف يوم عيد الفصح
دور حلب الريادي في الطباعة والنشر وبدء عصر النهضة الفكرية في القرن السابع عشر
نصوص اللعنات الفرعونية وتاريخ سوريا وفلسطين
الصفصافة مدينة معرفة؛ حلمُ، هل يتحقق؟!
تطور الخط الآرامي الى النبطي ثم نشأة الخط العربي منه في الأنبار