كــــــلــــمة و رؤيــــــــا

التحركات الفلاحية في القرن التاسع عشر

د. عبد الله حنا- فينكس

التحركات الفلاحية في القرن التاسع عشر تُسهم في تكوين حركة النهضة العربية المعادية للحكم التركي الاقطاعي
درج المؤرخون البرجوازيون على اعتبار الأرساليات الدينية والحملة الفرنسية سببا لنشوء الحركة الوطنية وتطورها في النصف الثاني من القرن التاسع عشر. كما رأوا في نشوء الحركة الأدبية وتطورها سببا من أسباب انبعاث حركة النهضة. ومع الاعتراف بأهمية هذه العوامل ودورها في بعث الحركة الوطنية والقومية إلا أن اغفال العوامل الأخرى، وعلى رأسها العوامل الاقتصادية الاجتماعية، تجعل البحث في أسباب نشوء وتطور الحركة الوطنية العربية في بلاد الشام أمرا ناقصا ومغلوطا. ومع أن حركة الانبعاث الأدبي أسهمت بدور هام في خلق الحركة الوطنية القومية ودفعها إلى الأمام، فإن هذه الحركة الأدبية ذاتها كانت إلى حد ما مظهرا من مظاهر الصراع القومي والاجتماعي الآخذة معالمه في الظهور بفضل تعاظم الاتصال مع الغرب البورجوازي، ونتيجة ازدياد تفكك المجتمع الطبقي الاقطاعي وتعمق أزمته. فالمثقفون الوطنيون وجهوا نار نضالهم ضد سياسة التتريك أي ضد سياسة طمس معالم الحضارة العربية والثقافة العربية، وعملوا على بعث الأدب الكلاسيكي الزاهر في العصر الوسيط. كما أنهم انتقدوا بشكل أو بآخر، وحسب الامكانات المتوفرة، النظام الاستبدادي الاقطاعي الأوتوقراطي السائد في الدولة العثمانية. وكانت الاضطرابات والصدامات الاجتماعية وعلى رأسها انتفاضات الفلاحين وتململهم أحد العوامل الرئيسية في دفع الحركة الوطنية والقومية وجعلها تطفو على سطح الأحداث بعد ان كانت تكمن في الأعماق.
إن الاهتمام بالحركات الاجتماعية التي وقعت أيام الدولة العثمانية في بلاد الشام وإلقاء الأضواء على تأثيرها الفعال في نمو الحركة الوطنية وتطورها، يقربنا من الحقيقة التاريخية التي لم ير منها المؤرخون البرجوازيون سوى بعض مظاهرها وجوانبها.
كما أن هؤلاء المؤرخين الذين لم يكن بإمكانهم رؤية الأسباب الاقتصادية والاجتماعية وهي المحرك الرئيسي للتاريخ، ظلوا في تحليلاتهم ونظراتهم أسرى التحليلات المثالية والميتافيزيقية، وهذا مما قادهم إلى قلب الحقائق معتبرين النتائج أسبابا، متغافلين عن التأثيرات المتبادلة بين القاعدة (البناء الاقتصادي الاجتماعي) والبناء الفوقي. كما أنهم لم يدركوا أن البنية الفوقية المتأثرة بالقاعدة تسهم فيما بعد في التأثير في القاعدة الاقتصادية الاجتماعية.
رافق مجيء الحملة المصرية إلى سورية (1832 – 1840) دخول سورية – في البدء الساحل ومن ثم الداخل – أكثر فأكثر في إطار السوق العالمية الرأسمالية مما أدى إلى تفكيك التقوقع الاقطاعي وتصدع العلاقات الاقتصادية والثقافية. لقد بدأت عملية التصدع هذه وعملية ظهور الاشكال الجنينية للعلاقات الرأسمالية تظهر في مدينة بيروت التجارية، ثم انتقلت بالتدرج إلى المدن الأخرى. لقد كان لنمو العلاقات القائمة على تبادل البضائع بالنقود وتنامي العلاقات التجارية مع أوروبا الرأسمالية أثر جوهري في خلق الشروط المناسبة لانتشار الأفكار البرجوازية وزيادة تأثيرها في المجتمع، وفي قيام الجمعيات الأدبية السياسية التي شكلت تيار النهضة العربية الحديثة في النصف الثاني من القرن التاسع عشر ومستهل القرن العشرين.
ان الحركات الفلاحية هذه، التي قاومت التحصيل التعسفي للضرائب واضطهاد العائلات الفلاحية وسرقة أراضي الفلاحين لقيت مقاومة شديدة من الأمراء الاقطاعيين المدعومين من الحكومة المركزية ورجال الدين.
ولا بد من الإشارة إلى أن ضعف هذه الحركات وفقدان الرؤيا أمامها وقيامها بشكل عفوي دون تهيئة مسبقة، بالإضافة إلى عدم وجود سند لها في المدن، أدى إلى ضعفها وتمكن الحكم الاقطاعي من القضاء عليها.
ولم تكن الحركات الفلاحية في بلاد الشام في القرن التاسع عشر موحدة القيادة بل أن أعمالها في كثير من الأحيان كانت ذاتية اضافة إلى عفويتها. وساهم الجهل المطبق آنذاك وصعوبة المواصلات والاقتصاد الفلاحي المبعثر البعيد عن التركيز في الحد من انتشار هذه الحركات وبلوغها بعض أهدافها. كما أن التمردات الفلاحية لم تكن دائما تصيب النظام الاقطاعي في الصميم، بل كانت موجهة ضد أشخاص معينين من الاقطاعيين ورجال الحكومة. ولاقت هذه الحركات بعض النجاح في الأماكن الجبلية الوعرة وهدفت إلى مقاومة النظام الاقطاعي الرسمي عن طريق رفضها دفع الضرائب، الغذاء الرئيسي لهذا النظام.
وقد ساهمت الحركات والانتفاضات الفلاحية في دفع وتشجيع المثقفين من اعلام النهضة العربية المنتمين إلى الفكر البرجوازي إلى نقد النظام القائم وحمل لواء المقاومة العربية ضد التتريك وتعرية بعض جوانب المجتمع الاقطاعي المتخلف.
حمل أحمد فارس الشدياق (1805 – 1887) لواء الطريقة التجديدية في الأدب وشق الطريق أمام الأدباء المتأخرين. ولم يقم الشدياق بتحرير اللغة العربية من القوالب الجامدة فحسب، بل انتقد ايضا أعمال الاكليروس ولاسيما الفئة العليا منهم الممثلة والمدافعة عن الاقطاعية، وعكس ذلك شعور الفلاحين الدفين المستائين من أوضاعهم. انتقد الشدياق بصراحة في كتابه (الساق على الساق) النظام الاستثماري بشكل عام ودعا إلى انصاف من يكدحون ولا يملكون من الدنيا شروى نقير. والفقرة التالية من كتابه الآنف الذكر أبلغ دليل على موقفه من هذه القضية الاجتماعية.
"... اذا دخلت قصور الملوك وطفت في أسواق المدن وعاينت ما فيها من الصنائع البديعة والتحف العجيبة، والآلات الطريفة والفرش النفيس والثياب الفاخرة والأواني المحكمة ولاسيما الطريفة، لندن، علمت أن صناعها هم القائمون بالدنيا وهم منها محرومون وإذا كان الناس عباد الله في أرضه على اختلاف احوالهم ومراتبهم هم كالجسم الواحد باختلاف ما فيه من الأعضاء الجليلة والحقيرة، فلم لا يجري العدل بينهم كما يجري بين الأعضاء".
ومن رجال النهضة العربية ذوي النزعة البورجوازية المعلم بطرس البستاني (1819 – 1883) الذي دعا إلى حب الوطن ووحدة سورية وأصدر جريدة "نفير سوريا" بعد الأحداث الطائفية الدامية سنة 1860، وندد بالتعصب والنزاعات والخصومات الدينية والخرافات والانفصالية الاقطاعية وفساد السلطات التركية كما دعا إلى التسامح الديني وهاجم استعباد المرأة.
وهناك أيضا نعمان القساطلي الحلبي (1854 – 1920) الذي تحمل رواياته بين طياتها محتوى الأفكار الجديدة في شكل انتقاد اجتماعي للمجتمع السوري الإقطاعي.
كما أن الحركة الإصلاحية في دمشق ولاسيما جناحها الراديكالي المعبر عن تطلعات البرجوازية التجارية وقف ضد النظام الاستبدادي والإقطاعي وتجاوبت هذه الحركة الدمشقية البرجوازية النزعة مع حركة جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده من أجل إصلاح التعليم وإنقاذ الإسلام من تأثير المجموعات الدينية الرجعية التي كانت تخدم في الواقع الاستبداد السياسي والنظام الإقطاعي. ومن المعروف أن الشيخ طاهر الجزائري كان أبا روحيا لهذه الحركة التي أعطت ثمارها قبل الحرب العالمية الأولى وبعدها.
ان المتتبع للحركة الفلاحية في بلاد الشام قبل الحرب العالمية الأولى سنة 1914، يلاحظ وجود الحلف غير المكتوب بين الحركة الفلاحية والحركة البرجوازية الجنينية الناشئة في المدن. ويبدو ذلك واضحا في موقف المثقف البرجوازي والشخصية البارزة في حركة النهضة العربية عبد الرحمن الكواكبي (1849 – 1903) الصحفي والمحامي رئيس غرفة تجارة حلب. فقد دافع الكواكبي بقوة عن الفلاحين وناضل معهم من أجل تحررهم من النير الإقطاعي وبصفته محاميا أقام عدة دعاوى ضد والي حلب كامل باشا التركي الذي نهب أراضي الفلاحين في عدة قرى مجاورة لحلب. وقد وقف الفلاحون ضد هذا النهب الإقطاعي وأيدتهم في موقفهم هذا الفئات البرجوازية الشابة المعادية للإقطاعية. واستطاع الكواكبي بفضل نضال الفلاحين وتأييد البرجوازية الناهضة من ربح الدعاوى وارجاع الأرض للفلاحين. ولذلك فقد اطلق عليه في حلب لقب (أبو الضعفاء) مما أثار السلطات التركية الإقطاعية عليه فاعتقلته وصادرت أملاكه، ولكنه استطاع الفرار من السجن والالتجاء إلى مصر عام 1898. ومن المعروف أن الكواكبي الإنساني المتنور عدو الإقطاعية والكولونيالية وأحد كبار رواد النهضة العربية الحديثة وقف في مؤلفاته ضد الحكم الاستبدادي الإقطاعي، وكان من أوائل دعاة القومية العربية.
وبعد أن يصف الكواكبي حالة (العوام) – والفلاحون هم أكثرية العوام، يتساءل: (من هم العوام؟ هم أولئك الذين إذا جهلوا خافوا وإذا خافوا استسلموا، وهم الذين متى علموا قالوا ومتى قالوا فعلوا... العوام يذبحون أنفسهم بأيديهم بسبب الخوف الناشئ عن الجهل فإذا ارتفع الجهل زال الخوف وانقلب الوضع أي انقلب المستبد). ( 1 / 3 )
كوّن الشدياق والبستاني والقساطلي والكواكبي وغيرهم داخل حركة النهضة العربية تيارا رئيسيا بورجوازيا ثوريا معاديا للإقطاعية. ولكن حركة النهضة العربية حضنت منذ الماضي البعيد في أواخر القرن التاسع عشر ومستهل القرن العشرين بذور تيار آخر عبر عن آلام الطبقات الدنيا وتطلعاتها يمكن أن تطلق عليه اسم: التيار الديمقراطي الثوري.
فعلى الرغم من أن مفاهيم العدل الاجتماعية كانت ما تزال قلقة في أذهان المثقفين العرب التقدميين، فإن تيارات ومذاهب فكرية طالبت بالعدل الاجتماعي، بشكل اكتنفه الغموض أحيانا والتناقضات أحيانا أخرى. ومع هذا فإن علامات التيار الديمقراطي الثوري، الذي كان أضعف التيارات داخل الحركة الوطنية العربية على أعقاب الحرب العالمية الأولى برزت في كتابات بعض المفكرين العرب، وفي مقدمتهم الدكتور شبلي شميل وفرح انطون.
لقد عبّر التيار الديمقراطي الثوري داخل الحركة الوطنية العربية، رغم صغره قبل الحرب الأولى، عن تطلعات الفئات الاجتماعية المستغلة المسحوقة، التي أخذ دورها يتنامى رويدا رويدا بعد الحرب العالمية الأولى، ثم احتل مكان الصدارة في الحركة الوطنية العربية بعد الحرب العالمية الثانية.
كان الدكتور الطبيب اللبناني المقيم في مصر شبلي شميل (1860 – 1917)، الذي حكمت عليه محاكم جمال باشا بالإعدام أثناء الحرب العالمية الأولى نظرا لمساهمته النشيطة في الحركة القومية الوطنية، من أبرز من شرح الاشتراكية ودافع عنها ولاقى الاضطهاد الفكري في سبيلها. وقد شكل قبل الحرب العالمية الأولى وأثناءها الجناح اليساري داخل الحركة القومية آنذاك، وكان مؤمنا ايمانا منقطع النظير بالاشتراكية. فهو يقول عام 1908: (وما الاشتراكية كما يرميها خصومها بأضغاث أحلام ولا أصحابها ظلام طغام، بل هي تريد أن تمهد للإنسان سبل السعادة على هذه الأرض وسترد له الفردوس الضائع..(1/4).
وفي مقالة (لطمة على خد العالم) يقول شميل:
(.. هكذا بوضوح وصراحة ثورة العمال ضد أصحاب المال.. فالإشتراكية نتيجة لازمة لمقدمات ثابتة لابد من الوصول إليها بعد تذبذب طويل... والاشتراكية كالاجتماع نفسه ذات نواميس طبيعية تدعو إليها .. فالإشتراكية كما شرحها شميل في مستهل هذا القرن هدف، وهي طريق حتمي، ومرحلة من مراحل تطور المجتمعات يسير المجتمع بالضرورة نحوها.
بعد شميل، أو معه يأتي فرح انطون (1873 – 1922) اللبناني المولد والمقيم في مصر من أبرز رجال النهضة العربية الحديثة وعلم من اعلام التيار الديمقراطي الثوري الذي دافعوا عن الطبقات المستثمرة. فمنذ عام 1904 كتب فرح انطون في روايته (أوروشليم الجديدة) الطبقات العالية لا هم لها إلا ملاذها، فهي تفرح وتطرب لأن الامبراطور يترك لها حرية التمتع بها، فكان الدنيا كلها عندها أكل وشرب ولذة. والطبقات الواطئة ترضى بأقل شيء ولذلك يلهونها بأصفر الأمور، ويعملون على ظهرها كل الأعمال، فهل تفتح عيونها يا ترى يوما من الأيام(1/6).
كان فرح انطون من أوائل المفكرين العرب المحدثين، الذين أدركوا الوضع الطبقي للمجتمع، إذ رأى المجتمع ينقسم إلى قسمين: الأسياد والعبيد، الكبار والصغار، الأغنياء والفقراء. الأقوياء والضعفاء. ويقول فرح انطون: (بينما يملك الأغنياء كل شيء، لا يجد الضعفاء قطعة خبز يأكلونها عندما يحل المساء) وقد دعا فرح انطون في روايته (الدين والعلم والمال) إلى التأميم وإلى الملكية الجماعية لوسائل الإنتاج. فقد كتب بكل صراحة:
(ان معامل الأمة ومصانعها ومتاجرها وأراضيها هي من مرافقها ومنافعها كالأنهر والأبحر والهواء. ولذلك لا يجوز أن تكون ملكا لفرد، أيا كان، بل هي ملك لجميع الأمة، فعلى الأمة اذن أن تتولى ادارتها بنفسها وتوزع أرباحها بين أبنائها. أي أن الحكومة تجعل نفسها التاجر الوحيد الذي تنحصر في يده تلك المتاجر والمصانع والمزارع).
وتبدو قناعة فرح انطون بمستقبل المضطهدين في روايته المذكورة (الدين والعلم والمال) التي صدرها بالعبارة التالية: (فليحذر العالم من يوم يصير فيه الضعفاء أقوياء والأقوياء ضعفاء).
ان الدور التاريخي الهام، الذي قام به التيار الديمقراطي الثوري، متمثلا بشميل وفرح انطون، تجسد في استطاعته تلقيح الحركة الوطنية والقومية بمفاهيم جديدة ذات طابع ديمقراطي عام، أخذت سماته تظهر تدريجيا وبشكل واضح مع تقدم الزمن، في الوقت الذي كانت فيه عملية التمايز بين مختلف التيارات البورجوازية الصغيرة والعمالية تأخذ أبعادها المنطقية داخل حركة التحرر الوطني العربية . وقد أسهم في هذا التمايز النمو المطرد لكل من قوى البورجوازية والعمال، اضافة إلى ازدياد دور الفلاحين في الكفاح الوطني وممارستهم تأثيرا مباشرا أو غير مباشر على مسار الحركة الوطنية ومفاهيمها وسياستها.
 
 
مشكلة تدوين التاريخ العربي (والقصة الخرافية لبناء الجامع الأموي من قبل البيزنطيين مثالاً)
لمحة في تاريخ "انطاكيا".. المدينة والكنيسة
حدود الحي المسيحي بدمشق داخل السور قبل القرن الخامس عشر الميلادي وبعده
من نهفات بعض المؤسسات الكارهة للسوريين
بمناسبة 8 مارس يوم المرأة العالمي.. الاستثمار في النظام الذكوري
الحقيقة حول اختلاف يوم عيد الفصح
دور حلب الريادي في الطباعة والنشر وبدء عصر النهضة الفكرية في القرن السابع عشر
نصوص اللعنات الفرعونية وتاريخ سوريا وفلسطين
الصفصافة مدينة معرفة؛ حلمُ، هل يتحقق؟!
تطور الخط الآرامي الى النبطي ثم نشأة الخط العربي منه في الأنبار
الأب يوحنا الشيفتشي الذي فك رموز حجر رشيد
بمناسبة يوم ذكرى اهتداء بولس الرسول بدمشق
التكييف والتبريد في الحضارة الإسلامية (الملاقف) حلول بيئية مبتكرة سبقت عصرها
الكتابات والوثائق الآراميّة
المشتى تهاجر! (موضوع للمناقشة والتفاعل)