
السياسة الخارجية للسلطنة العثمانية من خلال: "وصية فؤاد باشا ١٨٦٩"
2023.03.01
إلياس بولاد- فينكس:
كان فؤاد باشا واحداً من رجالات الاصلاح في السلطنة العثمانية، و إليه ينسب الفضل في صدور الأمر المسمى: "خط همايوني سنة ١٨٥٦م" القاضي بوجوب مساواة رعايا الدولة على اختلاف أجناسهم ومذاهبهم في الحقوق والواجبات، وله الوصية المشهورة التي رفعها قبل موته بيوم واحد إلى السلطان عبد العزيز سنة ١٨٦٩م. وقد نشرتها مجلة: "القرن التاسع عشر" الانجليزية بعد فترة زمنية قصيرة من موته وتأخرت الصحف العربية بنشرها باللغة العربية إلى آوائل القرن العشرين مجلة "المقتطف" المصرية.
ونظراً إلى أهميتها البالغة والتاريخية وبعد أن قرأتها باهتمام كبير، كلها، ونظراً لقلة من اطلع عليها من الأصدقاء الأعزاء فإن أقتبس بعضا منها.
حيث أن السياسة الخارجية التي اتبعتها السلطنة العثمانية خلال القرن التاسع عشر الى بداية الحرب العالمية الأولى كانت في جوهرها السياسة التي سار عليها فؤاد باشا وعدد من كبار الساسيين العثمانيين. وهي سياسة التوازن السياسي مع الدول العظمى، الى حد ما، فحفظت السلطنة من السقوط والانهيار. و رغم أن السياسة الخارجية بعهد السلطان عبد الحميد الثاني توجهت عن خطها التقليدي من العهود السابقة بتوجهها و تقربها من الامبرطورية الألمانية الصاعدة إلّا انها حافظت على الأسس التقليدية التي اتبعتها العهود السابقة مع باقي الدول العظمى الأخرى.
و التحول الجذري في السياسة التركية كان عشية الحرب العالمية الأولى عندما وقع أعضاء حكومة حزب الاتحاد والترقي معاهدة مع المانيا وقطعوا كافة علاقاتهم مع انجلترا وفرنسا وروسيا. و لم تكن نتيجة الحرب في صالحهم. و خسرت تركيا كل أراضيها تقريباً.
عدّل مصطفى أتاتورك الموقف بعودة الى الدول العظمى التي ربحت الحرب وبشكل حاد ومتطرف! (خارجياً وداخلياً).
ومما جاء في وصية الوزير فؤاد باشا:
"لا يتوهم أحد أن العلم الاسلامي يختلف عن علوم بقية الأمم. فالعلم واحد في كل مكان... والاسلام هو حسب اعتقادنا مجلى كل حقيقة ومظهر كل علم. وبناء عليه لا شيء يحول دون اقتباسنا ما جد عند الأوروبيين من القواعد والقوانين. و لقدتضلعت في ديانتنا تضلعاً قدّرني على فهم كنهها و إدراك حقائقها و لست بجاهل أهمية الغرض الذي أرمي إليه و أبني كلامي عليه. و ما كانت نفسي لتسول لي أن أخون أخوان سلطاني ووطني ومذهبي في الدقيقة الأخيرة من حياتي عنداستعدادي لمفارقة العالم والوقوف في حضرة الديان العادل.
فبملء الثقة والاقتناع أقول انه ليس بين جميع القوانين الجديدة التي تعرضها أوروبا علينا، قانون واحد ينافي روح ديانتنا على الاطلاق. وبكل إخلاص أصرّح بأن خلاص الاسلام يقتضي المبادرة الى قبول هذه القوانين التي لا مندوحة عنها لأمة تروم حفظ كيانها وسلامتها من التلاشي.
.... أما من جهة علاقاتنا الخارجية، فلما كنا غير قادرين على محاربة أعدائنا وجب علينا أن نستعين بمصادقة الأجانب ومحالفتهم.. ولأجل حماية حقوقنا يترتب علينا أن نبدي من القوة والحذق والشجاعة أكثر جداً مما أبدى أسلافنا في اخضاع الشعوب وتدويخ الممالك، و إذا بحثتم عن حلفائنا الأجانب وجدتم انجلترا على الدوام في مقدمتهم. وسياستها وصداقتها متينان كقوانينها، وقد خدمتنا في الماضي خدمات جليلة ولا يسعنا الاستغناء عن مساعدتها في المستقبل. و لو خيرت لاخترت خسارة الباب العالي عدة مقاطعات على خسارته صداقة انجلترا.
أما فرنسا فحليفة لنا، يجب أن نعاملها دائماً بما نستطيعه من التجلة والاحترام ليس لأنها قادرة أن تمدنا بأعظم مساعدة فقط، بل لأنها تستطيع أيضاً أن توقع بنا أكبر ضرر.
ولها شغف بالعظمة ولو رأتها في أعدائها.
فأحسن وسيلة لحفظ صداقة هذا الشعب الكريم هي أن نجاريه على أفكاره وتصوراته ونبدي ما يوافقه من هذا القبيل. و إذا اعرضت فرنسا عنا يوماً و جاهرت بمعاداتنا كانت من الأسباب المتممة لخرابنا.
أما النمسا فقد شغلتها مصالحها الأوروبية عن المداخلة في المسألة الشرقية. وارتكبت غلطة كبيرة في حرب القرم، وسترى في المستقبل الخطر الذي ينقض عليها من الشمال ويكون شديداً عليها كما يكون علينا نحن أيضاً. وستبقى حكومة فيينا حليفة طبيعية للباب العالي ما دامت ناهجة في سياستها الحكمة والسداد. أما بروسيا فقد ظلت إلى هذا الوقت غير مكترثة للمسألة الشرقية ومن الممكن أن سياستها تقضي عليها بتضحيتنا في سبيل مشروع الاتحاد الالماني وبعد حصول هذا الاتحاد لا تلبث المانيا أن ترى في المسألة الشرقية ما لبقية الدول من مصالح، وعسى أن لا تكون نتيجة سياستها في النمسا إلزام أعدائنا امتلاك بلادنا الأوروبية (كانت نظرته بعيدة وتحقق ما قاله).
أما روسيا فهي عدوة دولتنا الطبيعي وامتدادها في الشرق من جملة مبادئها الأساسية. و لو كنت وزيراً روسياً لما تركت شيئاً يحول دون تدويخ الأستانة، فلا نعجب إذاً ولا نشكو من جفائها وعدائها وهي تعاملنا الآن كما كنا نحن نعامل اليونان.
إن روسيا لم تعد كما كانت في عهد بطرس الأكبر، بل خطت خطوات مهمة في سبيل التقدم وعما قليل تزداد قوتها عشرة أضعاف بواسطة سككها الحديدية. و مما يخيفني على الخصوص أن أكثر أمم أوروبه راض من الآن بما تقصده روسيا من الاعتداء على غيرها.....
ولقد حدا بي ذكر روسيا إلى الكلام على ايران ولو بإيجاز. فحكومة هذه البلاد كانت على الدوام منقادة بعامل التعصب الشيعي إلى محالفة أعدائنا. وقد سولت لها نفسها في حرب القرم ان تظاهر روسيا علينا ولكن رياح السياسة الشرقية هبت على خلاف مشتهاها وحالت دون تحقيق مناها. وعرش الشاه معتمد في الوقت الحاضر في الوزارة على أن حكومته بالغة غاية الضعف والجهل والفقر فلا تستطيع مبادأتنا بالشر والعداء ما دمنا مطلقي الأيدي من المشاكل والعراقيل، ولكن متى نشبت الحرب بيننا وبين روسيا عدت إلينا ايران في مقدمة أعدائنا بالرغم من شدة حذرنا منها مدفوعة بعامل استقلالها السياسي وغيرتها العمياء، ولكن الباب العالي لحسن حظه يأمن جانبها بما لديه من القوة المادية وهو قادر أيضاً أن يستعين بالوسائط الأدبية على إرهاب حكومة زعزع أركانها الاستبداد وكثرة الطامحين إليها وهي محاطة بأهل السنة من كل جانب. و لا يجوز أن ننسى اليونان فهي لا شأن لها في ذاتها ولكنها آلة في يد دولة معادية لنا تستخدمها لتعكير مائنا وتكدير صفائنا... ولكن روح الجنس اليوناني سيبقى على الدوام مضاداً لمصلحتنا. فمصلحتنا السياسية تقضي علينا ببذل الجهد في إبعاد اليونان عن باقي المسيحيين الذين في سلطتنا وفصل البلغار عن سلطة الكنيسة اليونانية ومنع اتصالهم بالكنيسة الروسية او البابوية. وعلى الباب العالي ان يمنع كل دسيسة يراد بها ضم الأرمن إلى الكنيسة الأرثوذكسية، و ليكن سعينا لخير المسيحيين مقصوراً على محاولة تحريرهم من سلطة الاكليروس. و أفضل سياسة يجب علينا اتباعها هي أن نجعل الحكومة فوق كل مداخلة في المسائل الدينية.
أكتفي هنا بما يخص السياسة الخارجية التي أوصى بها فؤاد باشا السلطان عبد العزيز. وهناك شق آخر من وصيته مخصص للأمور الداخلية للسلطنة..
الصورة لفؤاد باشا مأخوذة من كتاب الدكتور سامي مروان مبيض. "نكبة نصارى الشام أهل ذمة السلطنة وانتفاضة ١٨٦٠" و بإذن منه.