أهم الأحداث التي عاشتها الدولة العربية السورية 1918 – 1920- ح2

د. عبد الله حنا- فينكس:

أهم الأحداث التي عاشتها الدولة العربية السورية 1918 – 1920
وعلى رأسها الملك فيصل بن الحسين
***
انذار غورو ومواقف مختلف القوى
بعد الاتفاق الاستعماري الانكليزي الفرنسي على تقسيم مناطق النفوذ في الشرق الأوسط قام الجنرال غورو قائد جيوش الشرق والمندوب السامي للجمهورية الفرنسية الاستعمارية بتقديم انذاره الشهير في /14/ تموز سنة /1920/ إلى حكومة دمشق. طلب غورو في هذا الانذار .
1 – تسليم سكة حديد رياق – حلب للسلطة الفرنسية العسكرية.
2 – قبول الانتداب الفرنسي.
4 – قبول الأوراق النقدية التي أصدرها البنك السوري – الفرنسي.
5 – معاقبة أعداء فرنسا.
6 – مدة تنفيذ الانذار أربعة أيام فقط.
مع تقديم هذا الانذار سقطت آخر أقنعة الامبريالية الفرنسية وانفضحت مهمتها "التمدنية" و"الثقافية" في الشرق، وتعرت السياسة الامبريالية البربرية الزاعمة بأن مهمتها نشر الحضارة والمدنية.
لم تكن مطالب انذار /14/ تموز الهدف الرئيسي والنهائي للجنرال الاستعماري غورو، بل كانت خطوة تمهيدية لا بد منها لتصفية مركز الحركة الوطنية العربية والدولة العربية، اللتين لم تزعجا الاستعمار الفرنسي فحسب. بل الاستعمار الانكليزي أيضا الخائف من امتداد لهيب النضال الوطني القومي في دمشق إلى فلسطين وبغداد. ومع أن غورو حشد قوات عسكرية كبيرة للقضاء على الدولة العربية في دمشق، إلا أنه خاف من صمود المقاومة الوطنية (المؤلفة من جماهير المدن والفلاحين) وإفشالها لهدفه الرئيسي.
ولذلك فقد سعى غورو لضرب الحركة الوطنية من الداخل عن طريق زرع الانقسام بين صفوفها واضعافها حتى يتسنى له تنفيذ مخططاته الاستعمارية الكولونيالية بالقضاء النهائي على دولة دمشق العربية.
وبالرغم من أن غورو لم يكن يثق مطلقا بفيصل، لوقوع الملك فيصل في المدة الأخيرة تحت تأثير الوطنيين الراديكاليين و"لصداقته" المعروفة لبريطانيا المنافس الرئيسي لفرنسا، إلا أنه سعى جاهدا لكسب فيصل إلى جانبه، عن طريق الخداع من أجل استخدامه في شق الحركة الوطنية من الداخل وخلق البلبلة في صفوفها واضعاف حدة المقاومة الوطنية. وهكذا فإن غورو كان يوحي لفيصل بأنه لن يسعى لازاحته عن عرش سورية اذا ما نفذ مخططه ورضخ لمطاليبه. وقد نجحت خطة غورو في خداع فيصل الخائف من الاستعمار الفرنسي من جهة ومن الحركة الشعبية المناهضة للامبريالية من جهة أخرى .
وتسهيلا لمهمة فيصل في تنفيذ المخطط الاستعماري عن غير وعي منه .. وخوفا من الاصطدام مع الجيش السوري المحتشد في مواقع مجدل عنجر المنيعة، وافق غورو على تمديد الانذار حتى /21/ تموز، من أجل أن يتمكن فيصل من ازاحة الموظفين الوطنيين المعارضين للانذار وليستطيع حل الجيش. وقد عكست سياسة فيصل المتخاذلة هذه موقف الجناح اليميني داخل الحركة العربية الاستقلالية. للحفاظ على قيادة الحركة ووضعها في خدمة مصالحه .
أما أسباب قبول الوزراء الراديكاليين للانذار فيعود إلى عدم ثقتهم التامة بطاقة الشعب، وإلى عدم امتلاكهم النفس النضالي الطويل، عدا عن أنهم مستعدون بسبب تربيتهم البرجوازية إلى التراجع أمام المحن والرضوخ عندما تحتدم الأزمات الحادة.. وبذلك فإن هذا القسم من البرجوازية يمكن أن يلتقي أحيانا وفي اللحظات الحرجة مع الجناح اليميني، أو انه لا يقف على الأقل في وجه استسلامه ومساوماته، وهذا هو التفسير المعقول لقبول الوزراء الراديكاليين في تلك اللحظات الحرجة للانذار .
أما موقف المؤتمر السوري ( البرلمان ) ذي الأكثرية الاقطاعية الموافقة سرا على بنود الانذار فإنه يسترعي الانتباه. لقد وقف المؤتمر ضد قبول شروط الانذار واعتبر أية حكومة تقبله غير شرعية(35). هذا الموقف المعادي للاستعمار، والمساومة تحقق بفضل تأثير الأقلية المؤلفة من برجوازية دمشق والمثقفين من أنصار القومية العربية وتحت ضغط المظاهرات الشعبية الضخمة التي ملأت شوارع دمشق هاتفة للاستقلال ومنذرة من يساوم عليه بأقسى العقوبات(36).
ويبرهن هذا المثال على أن أقلية برلمانية مدعومة من الشارع تستطيع ضمن ظروف معينة اتخاذ قرارات ايجابية داخل البرلمان لصالح العمل الوطني. ودلّ ذلك على مرونة الحركة الوطنية التي أخذت في استخدام الأسلوبين السلمي والمسلح جنبا إلى جنب من أجل تحقيق أغراضها.
بعد أن سرّحت الحكومة الجيش بموافقة الملك فيصل في 19/7 و 20/7 أخذت طلائع الجيش المسرح تصل تباعا إلى دمشق، وفي الوقت نفسه عُلقت جلسات المؤتمر السوري المعارض لشروط الانذار مدة شهرين. وردا على ذلك اندفعت المظاهرات الشعبية الجبارة تطوف شوارع دمشق هاتفة بسقوط الحكومة والملك فيصل ومطالبة بالسلاح للدفاع عن حياض الوطن. وفعلا فقد قامت الجماهير الثائرة غير المنظمة بالهجوم بشكل عفوي على قلعة دمشق للحصول على السلاح ، مما أدى إلى وقوع أكثر من مئتي قتيل(37).
وأثناء هذه الأيام الحاسمة والمعارك الضارية كوّن العمال والحرفيون "الصناع والمعلمون" والتجار الصغار والمثقفون القوة الضاربة الرئيسية في النضال ضد قبول الانذار وتنفيذ المخططات الاستعمارية. وهذه القوى سارت تحت لواء برجوازية دمشق التي أذهلتها صلابة الجماهير واندفاعها الوطني الثوري فلم تستسلم وصممت على المقاومة محاولة ما أمكن جر السلطة إلى الدفاع والوقوف أمام الجيش الفرنسي الزاحف باتجاه دمشق.
واقتصر النشاط السياسي خلال فترة أزمة الانذار على مدينة دمشق وحدها، وهذا ما أضعف المقاومة الوطنية وجردها من عنصر الشمول. فبرجوازية حلب التجارية التي لم تقف قبل الحرب الأولى إلى جانب الحركة القومية نظرا لارتباط مصالحها التجارية مع الأناضول وبالتالي كان لها مصلحة في بقاء الدولة العثمانية، اتخذت بعد الحرب موقفا حياديا في الصراع الدائر بين الحركة العربية المتمركزة في دمشق وبين قوى الاحتلال والغزو الاستعماري، فقد نظرت هذه البرجوازية بحذر إلى ازدياد نفوذ الأرستقراطية الحجازية . وهي من جهة أخرى كانت ضد الاحتلال الفرنسي لكيليكيا، وتطمح في جعل كليكيا منطقة حرة تجاريا يسهل عن طريقها الاتصال الاقتصادي بتركيا. وهذه الأسباب مجتمعة هي التي دفعت بورجوازية حلب لتأييد المقاومة الفلاحية المسلحة المناهضة للامبريالية بعد معركة ميسلون، واقامة الصلات الحسنة مع الكماليين.
***
وثمة عامل آخر أضعف المقاومة المسلحة ضد الغزو الاستعماري الفرنسي وهو عدم مشاركة الفلاحين في النضال أيام الانذار. ان مدة الانذار القصيرة لم تمكّن البرجوازية الدمشقية والمثقفين الوطنيين من الاتصال بالفلاحين في مختلف المناطق وحشد سائر القوى للوقوف أمام الطغيان الاستعماري.
قبل الحرب العالمية الأولى كانت البرجوازية الدمشقية على صلات حسنة وتفاهم لا بأس به مع الفلاحين ولاسيما الأغنياء منهم.. وكانت البرجوازية تعقد الآمال الكبيرة على هذا اللقاء بين المدينة البرجوازية والريف الفلاحي للنضال ضد الحكم التركي. أما في العهد الفيصلي فقد سعت قمة السلطة لعزل البرجوازية عن الفلاحين لكي تتمكن من اجراء التحالفات مع الاقطاعية السورية. ولذلك فإن الفلاحين في مناطق القلمون والزبداني ووادي العجم وحوران الذين كان من الممكن استنفارهم للحرب كانوا غير مهيئين نفسيا وبدون تعبئة مادية، إلى درجة أن جنود الجيش المسرح ومعظمهم من الفلاحين رفضوا العودة إلى الجيش واتجهوا دون اكتراث إلى قراهم، بعد أن أعلن الملك فيصل الحرب على أثر تفاقم المظاهرات وعلى أثر اقتناعه بعدم جدوى المساومة مع الجيش الغازي.
وهكذا دخلت جماهير دمشق "وحيدة" إلى ساحة النضال في تموز 1920 ‘ ولم يكن بإمكانها خلال أيام معدودات وفي جو تسوده الفوضى والاضطراب ونشاط عملاء الاستعمار أن تصدّ الزحف الاستعماري الفرنسي.
ومع أن الحركة الشعبية التي سيطرت على شوارع دمشق في الربع الثالث من تموز سنة /1920/ كانت حركة معادية للاستعمار وللحكم الملكي الهاشمي. إلا أنها لم تفقد الرؤيا وظلت تعتبر أن عدوها الأول هو الجيش الاستعماري الزاحف باتجاه دمشق.
فعندما أعلن الملك فيصل قانون الدفاع في /21/ تموز توقف كل عمل عدائي ضد الملك، وأخذت فرق المتطوعة الدمشقية تسير باتجاه الغرب لمجابهة الجيش الاستعماري الفرنسي.
وبلغ عدد المتطوعين الذين وصلوا إلى هضاب ميسلون ما يقارب ثلاثة آلاف متطوع معظمهم سيء التسليح تسودهم الفوضى وليسوا على اطلاع على فنون الحرب، ويفتقرون إلى الخبرة القتالية(38).
وكانت الدوافع الوطنية والقومية والدينية ( الاسلامية) هي التي دفعت بهذا العدد الى ساح المعركة. ومع أن هذه الدوافع الثلاثة يمكن أن تصنع البطولات في ساح الوغى، إلا أن الخبرة العسكرية أو بالأصح انعدامها وسوء التنظيم والتسليح جعلت من هذه العوامل الثلاثة مجرد مشاعر لم يكن بإمكانها أن تصمد أمام جيش مسلح ومدرب يفوقها عددا وعدة. وتحت وطأة هذه الظروف، فإن روح الهزيمة لا تلبث أن تسري بسرعة فوق سرعة سريان النار في الهشيم، وينقلب الحماس العفوي والاندفاع الجامح والشجاعة الفائقة إلى جمود وتخاذل وخوف. فتسيطر عليها فكرة استحالة الصمود والثبات.
هذه حال المتطوعة أما حال الجيش المسرح فإن قائده وزير الدفاع يوسف العظمة لم يستطع أن يجمع منه إلا النزر اليسير. إضافة إلى كتيبة المدفعية التي اتخذت مواقعها في أعالي الجبال مضافا إليهم مئتا جندي من البدو من حرس الملك فيصل. الذين أبدوا أثناء المعركة شجاعة منقطعة النظير.
الحلقة القادمة: معركة ميسلون والأصح حسب تعبير ساطع الحصري؛ "يوم ميسلون"