كــــــلــــمة و رؤيــــــــا

السردية التوراتية هي الكذبة الأكبر في التاريخ- ح1

لطفي السومي- فينكس

مقدمة: كنت قد أشرت الى أنني سأنشر مجموعة من الحلقات، أبيّن من خلالها كيف استطاع العدوان الديني المقدس من قبل كتبة التناخ (التوراة باللغة الدارجة) أن يسوقوا كذبة ربما كانت هي الكذبة الأكبر في التاريخ الإنساني والتي إستطاعوا من خلالها ومن خلال تسربها الى الديانتين المسيحية والإسلامية أن يهيمنوا على العقل الجمعي لدى المؤمنين بالديانات الثلاث اليهودية والمسيحية والإسلام.
وما دامت هذه الكذبة قد تسربت من خلال النص المقدس فقد تأخر كشفها رغم تهافتها المنقطع النظير بسبب اعتبارها نصاً مقدساً يمنع تدريسه في كليات التاريخ في الجامعات ويقتصر هذا التدريس على كليات اللاهوت والكنس والكنائس وبصورة أخرى في المساجد.
قامت محاولات محدودة الأثر من قبل بعض الفلاسفة و رجال الدين، ومن أهمهم الفيلسوف اليهودي سبينوزا وعالم النفس اليهودي الأشهر سيجموند فرويد بنقد بعض جوانب الكتاب المقدس وبصورة خاصة نسبته لموسى، إلّا أن أهم هذه المحاولات قد تم في أواخر القرن التاسع عشر مع الألماني يوليوس ولهاوزن ومعاونيه وتلامذته ألت ونوث، إلّا أن دور هذه الدراسات رغم أهميته قد ظل بعيداً عن الانقلاب الجذري الحاسم والذي تأخر حتى العام ١٩٦٨مع (فريس) من جامعة كوبنهاغن، وتجذر هذا الانقلاب بعد أن تراكمت منشورات البعثات الأثرية في فلسطين والمواقع الأخرى التي لها علاقة بالسردية التوراتية من مثل صحراء سيناء وقادش برنيع وعصيون جابر وتل عراد وحسبان في شرقي نهر الأردن ومن ثم أريحا وعي و أورشليم وعدد كبير من المواقع الأثرية الفلسطينية.
ولا بد من التنويه بالدور الذي لعبته الدراسات التوراتية الحديثة التي نشطت في عدد من الجامعات والمراكز البحثية وساهمت مساهمة حاسمة في إسقاط العديد من جوانب السردية التوراتية الملفقة، ولقد تمثلت هذه الدراسات بعدد مهم من العلماء، ولعلي لا أجانب الصواب إذا اعتبرت أهمهم العالم المهجّر وهو الأمريكي توماس طومسون من جامعة كوبنهاغن، والذي منع من التدريس في بلده بسبب آرائه.
سيتم النشر كما سبق أن أشرت على مدى عدة حلقات، وسيتناول الجزء الأول من الحلقات الموضوعات التالية:
١) مرحلة الآباء: ابراهيم و اسحق ويعقوب والأسباط.
٢) مرحلة موسى ورحلة الخروج من مصر عبر سيناء.
٣) الدخول الحربي ليشوع بن نون وجحافله الى ارض كنعان.
٤) مرحلة مملكة اسرائيل الموحدة والملكين النبيين دَاوُدَ وسليمان.
سنبين مدى تهافت كل هذه الطروحات كما وردت في التناخ (العهد القديم) والتي تمثل الجزء الأول والذي يليه الجزء الثاني الذي سأبينه لاحقاً. راجياً من الصديقات والاصدقاء تناول الموضوع بعقل منفتح فكل ما سيرد هو نتاج علم الآثار والدراسات التوراتية، راجياً أن يكون العقل العلمي هو وحده الذي يقود تفكيرنا في عصر العلم والمعرفة، و أن نخرج من قوقعة السردية التوراتية التي سقطت في الوسط الأكاديمي وتحولت الى مجرد طروحات خرافية لا تمت للتاريخ بأية صلة.
راجياً أن يساهم الأصدقاء والصديقات بالمشاركة (share )من أجل اطلاع العدد الأكبر من القرّاء على هذه السلسلة المتكاملة من الدراسة الهامة.
 ********
مرحلة الاباء: ابراهيم واسحق ويعقوب والأسباط.
سنقسم هذا المبحث الى قسمين: الاول يتعلق بوصف الاباء كما ورد في التناخ (التوراة).
والثاني هو موقف علم الاثار والدراسات التوراتية من النصوص.
يقول النص (و أخذ تارح إبرام ابنه ولوطا بن هاران ابن ابنه وساراي كنته إمرأة إبرام ابنه فخرجوا معا من اور الكلدانيين ليذهبوا الى أرض كنعان فأتوا الى حاران واقاموا هناك.
ايام تارح مئتين وخمس سنين ومات تارح في حاران . (تكوين ١١: ٣٠- ٣٢).
وبموجب الحسابات التوراتية فان هذه الحادثة قد حصلت بين موعد اقصاه القرن ٢٣ ق م وادناه القرن ١٧ ق م، ولقد اعتبرت القرن العشرين ق م موعدا وسطا بين التاريخين.
نستكمل النقل من التوراة (فذهب إبرام كما قال له الرب وذهب معه لوط، وكان إبرام ابن خمس وسبعين سنة لما خرج من حاران.... وخرجوا ليذهبوا الى أرض كنعان واجتاز إبرام في الارض الى مكان شكيم الى بلوطة مورة وكان الكنعانيون حينئذ في الارض (تكوين : ١٢: ٤-٦)
نستكمل النقل من التوراة ( وانتقل ابراهيم من هناك الى ارض الجنوب وسكن بين قادش وشور وتغرب في جرار وقال ابراهيم عن سارة إمرأته هي اختي فارسل ابيمالك ملك جرار وأخذ سارة (٢٠: ١ ، ٢). ثم نستأنف الحديث عن ابراهيم الذي توجه الى مصر بسبب مجاعة في المنطقة حيث تنص التوراة (وحدث لما قرب ان يدخل مصر انه قال لساراي امرأته اني علمت أنك امرأة حسنة المنظر فيكون اذا راك المصريون انهم يقولون هذه امرأته فيقتلونني ويستبقونك ، قولي إنك اختي ليكون لي خير بسببك وتحيا نفسي من أجلك .تكوين ١٢: ١١ ، ١٣) ولم يخب ظن ابراهيم اذ انه (حدث لما دخل إبرام الى مصر ان المصريين رأوا المرأة انها حسنة وراها رؤساء فرعون ومدحوها لدى فرعون فأخذت المرأة الى بيت فرعون فصنع الى إبرام خيرا بسببها وصار له غنم وبقر وحمير وعبيد وإماء وأتن وجمال .تكوين : ١٤: ١٤ - ١٦). وبعد ان أقام سنوات في مصر عاد الى كنعان، وبسبب كون ساراي عاقرا فقد انجب من جاريته هاجر ولدا اسماه اسماعيل، الا ان ساراي حملت ايضا وانجبت اسحق وهي في سن التسعين بقدرة يهوه، وبعد ذلك طلبت من ابراهيم طرد هاجر وولدها كي لا يرث ابن هاجر اسماعيل مع ابنها اسحق ففعل وذهبت هاجر الى برية بئر السبع ثم الى برية فاران (طرف سيناء الشرقي).
ننتقل من النصوص لنرى بعض اراء علماء الاثار والدراسات التوراتية بما امكن من الاختصار:
المناقشة المنسوبة الى علماء الاثار والدراسات التوراتية
١) خروج ابرام من اور الكلدانيين: يقول ناحوم سارنا أستاذ الدراسات التوراتية في جامعة براندز الامريكية تعليقا على خروج ابرام من اور الكلدانيين، أن اول ذكر للكلدانيين قد ورد في مدونات الملك الاشوري “اشور ناصر بال“ في العام ٨٧٨ ق م نسبة الى قبيلة كلدو وانهم لم يصبحوا مملكة الا بين ٦٢٧ - ٥٣٩ ق م وان الملك نبونيدس هو من أعاد تاسيس اور كمدينة دينية مهمة في حوالي العام ٦٤٩ ق م، وهنا نتساءل كيف يمكن نسبة ابراهيم الى الكلدانيين قبل حوالي ١٥٠٠ سنة من وجودهم، ألا يثير هذا الشك في صحة النسبة وصحة الوجود التاريخي للمنسوب
٢) كان عمر ساراي حين اخذها كل من أبيمالك والفرعون ٧٥ سنة بل وان النص التوراتي يقول انها كانت هرمة، ألا يدل ذلك على ان القصة من أساسها مختلقة باحداثها وشخوصها.
٣) من المعروف ان الحديث يجري عن جرار وملكها الفلسطيني (اي من شعب البلست) الذين سكنوا جنوب غرب فلسطين في غزة وعقرون وعسقلان وجت والعاصمة اسدود في العام ١١٨٦ ق م بعد ان هزمهم الفرعون رمسيس الثالث، فكيف ننسب لملك منهم هو ابيمالك واقعة حصلت قبل ٨٠٠ سنة حين أخذ ساراي قبل ان يوجد اي ملك او سيد فلسطيني.
٤) لقد دجن الجمل في القرن ١٢ ق م وجرى استعماله في الحمل في القرن ١٠ ق م رغم وروده بين اعطيات الفرعون لابراهيم في القرن ٢٠ ق م اي قبل ان يدجن ويستعمل بحوالي الف سنة.
يعتقد جمهرة من علماء الاثار ان كتبة التوراة قد اخترعوا قصة ابراهيم للاسباب التالية:
١) محاولة ايجاد علاقة اثنية مباشرة بين مملكتي اسرائيل ويهودا الكنعانيتين من أجل تبرير الافتراء التوراتي بوجود مملكة موحدة باسم اسرائيل وملكيها الاسطوريين داود وسليمان.
٢) محاولة الانتساب الى مدينة حضارية هامة، وفي ذلك يقول اسرائيل فنكلشتاين أهم علماء الاثار في اسرائيل ( لم تكن اور مشهورة كموقع عريق وعلمي وحضاري جدا فحسب، بل واكتسبت سمعة ونفوذا عظيمين في كافة انحاء المنطقة اثناء إعادة تاسيسها كمركز ديني من قبل ملك البابليين او الكلدانيين نابونيدس في منتصف القرن السادس ق م وهكذا فان الاشارة الى أصل ابراهيم في اور ستقدم لليهود نسبا وأصالة ثقافية نادرة وقديمة).
واما عن قبور الاباء في حبرون فان اسرائيل فنكلشتاين بعد كل الدراسات المتعلقة بالاباء وبمغارة المكفيلة يقول (لا شك ان تقليدا يضع قبور الاباء مؤسسي الامة في حبرون سيعمق ارتباطهم القوي بمنطقة التلال الجنوبية سواء كانت القصة قديمة او لم تكن وكان التقليد حقيقيا او لم يكن فانه كان مغريا جدا لمؤلفي المصدر الكهنوتي ولذلك أكد الموضوع من قبلهم في قصص الاباء).
علما ان حبرون قد اصبحت جزءا من مملكة أدوم بعد العام ٥٨٦ ق م وكان الادعاء بوجود قبور الاباء فيها سيقوي حجة مملكة يهودا بالمطالبة باستعادتها،
واما اسحق فلقد عاش في كنف ابيمالك في جرار وشابه اباه في الادعاء بان زوجته ليئة هي أخته وتعاظم واصبح عظيما في جرار بعد ان أنعم عليه ابيمالك بمثل ما انعم على أبيه. نستغرب كيف اسمى يهوه يعقوب باسم اسرائيل (إسرا - إيل) مع ان الصراع هو مع يهوه، اي يجب ان يسمىه اسرا-يهوه، حيث ان ايل هو رئيس مجمع الالهة الكنعاني، اي ان القصة ملفقة.
أختم برجاء كل اصحاب الديانات ان يظل العقل قادرا على محاكمة النص اذا تنافى مع العقل وان نخرج من قوقعة اللاعقل والافكار المعلبة في عصر الانوار والعقل والمعلوماتية وبعد ان امدنا علم الاثار بحجم هائل من المعلومات الموثقة والتي من خلالها نعيد تقييمنا لكل موروثنا.
يتبع