كــــــلــــمة و رؤيــــــــا

من ثورة استقلال سورية.. حدث في حماة أيار 1945- ح1

خالد محمد جزماتي- فينكس

يسرني الحديث عن ذكريات الحياة التي عشتها في مدينتي حماة الصابرة المجاهدة، وعلى الأخص ذكرياتي عن ملعب كرة القدم الوحيد في مدينة حماة الذي كان يتوضع في منطقة "المغيلة" والذي يحيط به من جهة الشمال حي المدينة، ومن شرقه حي الجعابرة، ومن شماله ما نسميه مرتفع "الشير" التابع لحي باب القبلي، ومن شرقه ثانوية ابن رشد (ثانوية السيدة عائشة حالياً) وسوق الحدادين.. ذلك الملعب الذي شهد ممارسة لعبة كرة القدم من جميع شرائح المجتمع الحموي وخاصة الأطفال واليافعين منهم، وأيضاً أعضاء النوادي المختلفة التي تأسست في حماة في الثلاثينيات والأربعينيات من القرن العشرين مثل نادي أمية ونادي الفتوة ونادي سيد العرب، والأفواج الكشفية الكثيرة كالفوج الثالث مثلاً الذي كان مقره قرب الملعب المذكور....
و أزعم أن وجود ملعب كرة القدم في وسط مدينة حماة، كان السبب الرئيسي في تقدم تلك اللعبة لدى أندية حماة، و إحراز الفوز في كثير من المباريات الودية والرسمية، وحتى الفوز ببطولة الجمهورية في بعض السنين في أواخر أربعينيات القرن الماضي...خالد مهرات قائد شرطة حماه 1945
و بدون مقدمات أو شرح عن أوضاع البلاد المأساوية في أواخر حكم الانتداب الفرنسي على سورية ولبنان وتكريسهم لتقسيم بلاد الشام حسب الاتفاق الفرنسي الانكليزي (سايكس- بيكو)، فقد تم الاتفاق بين نادي أمية الحموي ومنتخب "الفرير" اللاذقية على مباراة في لعبة كرة القدم تجرى بين فريقيهما على ملعب "المغيلة" بحماة تحت رعاية الوطني الكبير محافظ مدينة حماة المرحوم "خالد الداغستاني" مساء يوم الأحد 13 / أيار / 1945... وتوافد الألوف من المواطنين الى الملعب ينتظرون، فأدرك محافظ المدينة خطورة الموقف وخاصة عندما تم رصد قدوم الكثير من الجنود المتطوعين من أهل السنغال وأيضاً من أبناء جلدتنا لمشاهدة المباراة، فأعطى أوامرة إلى الوطني المفوض الممتاز "خالد مهرات" قائد شرطة حماة في ذلك الزمان بحفظ الأمن أثناء المباراة، فقام من فوره بتوزيع رجال الشرطة حول الملعب وفي مداخل الأحياء بشكل مناسب حسب اجتهاده.. وبدأت المباراة، وما هي سوى دقائق إلّا والحماس يدب لدى مناصري ومشجعي الطرفين: نادي أمية الحموي ومنتخب الفرير اللاذقي..
و لما لاح من خلال اللعبة تقدم فريق أمية الحموي، بدأ بعض الجنود مشجعي منتخب الفرير بافتعال الفوضى، حيث بدأ البعض منهم بشتم المنتخب الحموي ومشجعيه، وفي تلك الفوضى تحرش بعض الجنوة بنسوة من حماة كن يشاهدن المباراة.. وفي ذلك المشهد كان أحد الجنود وهو حموي الأصل تطوع في الجيش البريطاني واسمه عبد القادر بن كامل الشيخ سعيد (السريحيني) يشاهد المباراة، فهاله ما سمع من الجنود الفرنسيين فاعترضهم وحدثت مشادة شديدة بينهم استدعت تدخل بعض شباب الأحياء المتحمسين لبلدهم وناديهم، فقاموا بمهاجمة المتطوعة من الجنود الفرنسيين، فأشبعوهم ضرباً فهربوا قاصدين ثكنة "الشرفة" غرب المدينة فلاحقوهم، ولكن شرطة المدينة تدخلت ومنعت الشباب الهائجة من اقتحام الثكنة العسكرية، فانقلبوا عائدين بمظاهرة سلمية صاخبة، وفي طريقهم الى ساحة النهر (ساحة العاصي) كان ينضم إليهم المئات من الأحياء المجاورة كحي باب القبلي وحي الشيخ عنبر وحي الحوارنة وحي سوق الشجرة وحي جورة حوا وحي دار الغنم وحي الدباغة وحي الباشورة وحي المشارقة وحي المحالبة.... إلخ، ولما وصلت إلى الساحة رفدت المظاهرة شباب الأحياء المختلفة من منطقة الحاضر كحي البارودية وحي الشرقية وحي الزنبقي وحي الشمالية وحي العصيدة وحي باب الجسر.. الخ، وهكذا بدأت الجماهير تزأر وتطالب بضياء الاسقلال ليظهر ويتحقق..
وهذا الحدث تجلى لأن ما يفعله الفرنسيون ليتنصلوا من وعودهم بالجلاء، كان يصل إلى جميع أفراد الشعب تباعاً، فيُحدث توتراً تلقائياً في نفوس المواطنين، وعلى الجملة نستطيع القول بأن النفوس كانت مهيأة للثورة نتيجة تصرفات الفرنسيين وأعوانهم...
وفي هذا السياق من المفيد ذكره أن الفرنسيين منذ اتفاق الاستقلال عام 1943 كانوا يرفعون علمهم والعلم السوري على الدوائر الحكومية المختلفة أيام الآحاد والأعياد، ثم ينزلونها في الأيام العادية، ولكنهم بعد انتصار الحلفاء على الألمان يوم 7 / أيار / 1945 تركوها مرفوعة وحدها (العلم الفرنسي)، ولذلك لما مرت المظاهرة بجانب دائرة الأمن العام قي حي الجعابرة، وقف الحشد أمام الدائرة المذكورة ينظر أفراده الى العلم الفرنسي المرفوع، وهم يهتفون بهتافات غير حميدة ضد فرنسا وعلمها، وتطور الأمر لدى بعض الشباب المندفع وهموا بإنزاله، ولكن ذلك كان صعباً تحقيقه، فهمّ البعض الى خلع الأبواب، ولكن رجال الشرطة منعوهم وترجوهم عدم الإقدام على ذلك.. و مع ذلك فقد تم إنزال العلم وتقطيعه قطعاً قطعاً ممزوجاً بكراهية شديدة لما يمثله...
ولكن كيف حدث هذا؟... حدثني الصديق المرحوم المحامي سهيل الغزي (وهو شاهد عيان على ما جرى)، أن الذي استطاع انزال العلم شاب مقدام ثائر منذ المراهقة اسمه "جواد العيان" تسلق أحد أعمدة الكهرباء كعفريت من عفاريت سليمان، ثم نزل الى سطح إحدى الدكاكين ومن ذلك السطح تسلل الى أحد المنازل المجاورة إلى دار الأمن العام، ومن تلك الدار قفز الى شرفة مقر الأمن العام الفرنسي، وتسلق السارية وأنزل العلم وقذفه إلى المتظاهرين...
وهكذا بقيت التظاهرة في ساحة العاصي حتى الساعة الثالثة فجراً، وأعيان حماة ومحافظها وقائد شرطتها يرجون الأهلين بالانصراف إلى بيوتهم... و انصرف الأهلون الى بيوتهم، ليستيقظوا صباح يوم الاثنين الواقع في 14 أيار 1945، حيث مارسوا أعمالهم وهم بكامل إرادتهم الصلدة مستعدين للتعامل مع تداعيات ما حدث بالأمس..
وللحديث بقية
المراجع: ثورة حماة على الطغيان الفرنسي (الجزء الأول)
تأليف: عثمان الحداد - حسن القطان - عبد الحسيب الشيخ سعيد
- كفاح الشعب العربي السوري للكتور احسان هندي
- تاريخ الجيش العربي السو ري (المجلد الأول)
اصدار مركز الدراسات العسكرية
- ناريخ الثورات السورية في عهد الانتداب الفرنسي
تأليف أدهم اّل الجندي
- مذكرات أكرم الحوراني
- مذكرات مدينة واشكاليات أخرى
المحامي عثمان عدي