كــــــلــــمة و رؤيــــــــا

مساع أمريكية صفيقة لفرض أمر واقع انفصالي في شمال وغرب سورية

هادي دانيال- فينكس: 

ألِفَتْ سوريّة (دولةً وشعباً) أنْ تفرِضَ الولايات المتحدة الأمريكيّة عليها عقوبات اقتصادية مادامت الحكومات السورية المُتعاقبة ترفض الإملاءات الأمريكية، خاصة عندما يتعلّق الأمْر بمقاومة الكيان الصهيوني ومشروعه الاستيطاني التوسعي المستمر، والذي أفضى منذ نشأته سنة 1948 إلى احتلال كامل جغرافية فلسطين التاريخية ليضاف إليها لاحقاً الجولان السوري وقرى لبنانية، ناهيكَ عن احتلال أراضٍ أردنية ومصريّة تمت إعادتها مقابل إخراج الأردن ومصر من دائرة الصراع العربي- الإسرائيلي. 

ويعود تاريخ أول عقوبة اقتصادية فرضتها الولايات المتحدة الأمريكية على سوريا إلى عام 1979 عندما اتهمت وزارة الخارجية الأمريكية الحكومة السورية في عهد الرئيس الراحل "حافظ الأسد" بدعم "الإرهاب" التي كانت تقصد به المنظمات الفلسطينية التي المدعومة مِن سورية على أراضيها والأراضي اللبنانية، وقد بذلت الدبلوماسية السورية جهوداً إن لم نقل خاضت معركة في محاولة لإقناع الجانب الأمريكي للتفريق بين الإرهاب وحق الشعوب في مقاومة الاحتلال الذي يضمنه ميثاق الأمم المتحدة، ولكن دون جدوى، فلسان الغطرسة الأمريكية ما فتئ يُرَدد "عنزة ولو طارت"، الأمر الذي جعل الدولة السورية تقبل التحدّي وتجعل من تلك العقوبات التي تسببت لسورية في تراجع اقتصادي كبير حافزاً إيجابياً لتغييرات كبرى في النظام الاقتصادي السوري سعياً إلى تحقيق الاكتفاء الذاتي والاعتماد في التجارة على دول معادية للولايات المتحدة على رأسها الاتحاد السوفييتي (قدَّسَ تاريخُ شعوب العالم الثالث ذكرَه)، بل أفضت هذه التغييرات إلى أن تكون سورية الدولة التي لا ديون خارجية عليها.

ولا شكّ أنّ عقوبات ما يُسَمّى "قانون قيصر" التي فرضته واشنطن على دمشق كانت رهاناً أمريكيّاً على أن تدفعَ وحشيّتُهُ الشعبَ السوري إلى أن يُحَمِّلَ الرئيس بشار الأسد وحكومة دمشق مسؤوليّة نتائج "قانون قيصر" التي أبرزها إلحاق موظفي الدولة ومَن في حكمِهِم بالمواطنين الذين دفعت بهم الحربُ الإرهابية التكفيرية على بلادهم إلى تحت خط الفقر وتداعيات ذلك اجتماعيا. فقد أملَتْ واشنطن أنها بالإفقار والتجويع ستدفع ضحايا قانون قيصر المُباشَرين إلى التظاهُر في الشوارع احتجاجاً على الرئيس الأسد وحكومته، لكنّ الذي حَصَلَ أنّ التظاهرات القليلة التي شهدتها الشوارع كانت ضدّ سياسة واشنطن و "قانون قيصر" الهمجي. فقد فات حَمْقى السياسة الأمريكيّة أنّ الشعب السوري يُتابِعُ ويرى ويسمع مآلات ومصائر الشعوب (بل وحتى الحكومات) التي خضعت للدمغجة الأمريكيّة، و أصغت لوعود واشنطن وعملائها كما هو الحال في العراق وليبيا واليمن و(تونس وإن بأضرار أقلّ حتى الآن) وغيرها. ناهيك عن أنّ الشعب السوري اختبر جيداً على مدى أكثر مِن عقد حقيقة "ثوار" أمريكا وتداعيات "ثورتهم" التي وضعت دولتهم ومؤسساتها في مهبّ الخراب ومواطنيهم تحت وطأة المجازر التكفيرية. وبالتالي يبدو أنّ واشنطن يئست مِن إمكانيّة أن يُحقّق قانون قيصر الهدف الاوتوماتيكي المرجو أمريكيّاً (تحميل الرئيس وحكومته نتائج العقوبات الأمريكية)، لذلك لجأت إلى استخدامٍ جديد لعقوبات قانون قيصر نفسه، ولكن هذه المرّة برفعه عن بَعْضِ المناطق السورية، وتحديداً المناطق التي يتواجد فيها عساكر وقواعد عسكرية أمريكيّة بذريعة حماية المنطقة ذات الأغلبية الكردية التي تسيطر "عليها قوات سورية الديمقراطية" مِن "داعش" التي باتت في سورية خاصة فزاعة أمريكية تظهرها واشنطن متى تشاء وتخفيها متى تشاء. هذه المناطق التي تتميّز عن بقية الأراضي السورية بأنّها مصدر عناصر الاكتفاء الذاتي الثلاثة للدولة السورية: القمح، القطن، والنفط الذي ما فتئ الأمريكان ينهبونه ويصدرونه عبر أربيل إلى الكيان الصهيوني، إضافة إلى أنّها منطقة غنية بالآثار والأوابد الحضرية التي جعلتها الأزمة في مهبّ نَهب صهيو أمريكي مسعور. وقد أوهم الأمريكان قيادة "قسد" بأنّ رفع عقوبات قانون قيصر عنها سيجعلها قبلة استثمار وإعادة إعمار قبل إيجاد تسوية نهائية وشاملة للأزمة في سورية هذه التسوية التي نجد واشنطن في مقدمة  الحائلين دون إنجازها. فالاستراتيجية الصهيو - أمريكية مِن مؤامرة الربيع العربي لا تزال قائمة، وهي تقسيم الدول الوطنية المُستَهدَفة مِن هذه المؤامرة (وفي مقدمتها سورية) إلى دويلات فاشلة تقوم على أسس طائفية  دينية أو عرقية تدور جميعها في فلك "دولة إسرائيل اليهودية الكبرى"، وبالتالي رَفْع العقوبات عن هذه المناطق التي تسيطر عليها القوات الأمريكية وكذلك عن المناطق التي تسيطر عليها القوات التركية (باستثناء منطقتي عفرين في ريف حلب التي سيطرت عليها تركيا في عملية غصن الزيتون عام 2018 بعد ما طردت القوات الكردية منها، ومنطقة إدلب التي تسيطر عليها "هيئة تحرير الشام" المصنفة على قوائم الإرهاب العالمية) يهدف أساساً إلى فرض أمر واقع انفصالي في شرق وشمال سورية يؤسس لتقسيم الدولة السورية. 

ولم يُخْفِ بَعض عملاء واشنطن "تفاؤلهم" بأن القرار "هو بداية تقسيم جديد لسوريا، بفصل منطقة كاملة عن سوريا وإعطائها جيشاً وعلماً وحدوداً وامتيازات اقتصادية، ما يفتح الباب أمام العلويين والدروز والمسيحيين للمطالبة بمناطق خاصة بهم".

ولا يبتعد كثيراً الباحث في الشؤون الكردية والمقيم في مدينة القامشلي "شفان إبراهيم" عن الـ"تفاؤل" أعلاه  عندما يقول: "ربما نشهد ولادة لشيء جديد مخالف للفيدراليات ومخالف للامركزيات السياسية، ربما تبقى دمشق مركزية، ولربما الشمال السوري سيكون له وضع جديد، فتطبيق هذا القانون سيعني حكماً نقل المنطقة إلى طور سياسي جديد".

فرْض أمر واقع جديد يُفضي فقط إلى تقسيم الدولة السورية، هذا بالضبط ما ترمي إليه موافقة وزارة الخزانة الأمريكية على السماح بممارسة النشاط الاقتصادي في 12 قطاعاً، تشمل الزراعة والاتصالات والكهرباء والمياه والنفايات والبناء والطاقة النظيفة والتمويل والنقل والتخزين، إضافة إلى القطاعات المتعلقة بالخدمات الصحية والتعليم والتصنيع، في مناطق شمال شرقي سورية التي تسيطر عليها "قوات سورية الديمقراطية" (قسد)، ومناطق في شمال غربي سوريا حيث يسيطر ما يُسمّى "الجيش الوطني" المدعوم من تركيا التي تعتزم بناء مائة ألف منزل فيها لغرض إعادة اللاجئين السوريين إليها. وفي هذا السياق أصدرت الخزانة، الخميس 12 من أيار/ماي2022، بياناً جاء فيه أنها سمحت ببعض الاستثمارات الأجنبية في المناطق الواقعة بشمالي سوريا والخارجة عن سيطرة "حكومة النظام"، والتي زعمت أنها استراتيجية تهدف لهزيمة تنظيم "الدولة الإسلامية" من خلال تحقيق الاستقرار الاقتصادي، فكم مضى من الوقت على إعلان واشنطن عن هزيمة "داعش" في سورية لتبعثها من جديد عندما تريد استخدام اسمها فزّاعة؟

 ولا يُسْتَبْعَد أنّ مصالحاً أمريكية مباشرة أيضاً تقف وراء لائحة رفع العقوبات عن بعض المناطق السورية  فبموجب اللائحة تستطيع الشركات الأميركية والمؤسسات المرتبطة بها الدخول للعمل في مناطق شرق وشمال سوريا ضِمن القطاعات المحدّدة، لكنّ الأهمّ في هذا السياق ما أشار إليه  الباحث "شفان إبراهيم" الذي يرى أنّ "القرار جزءٌ  من تسوية سياسية لنقل الغاز القطري وغاز إقليم كردستان العراق والغاز الموجود في شمال شرقي سوريا إلى تركيا ثم إلى أوروبا، للخلاص من الابتزاز الروسي في قضية الغاز"، وبالتالي هذا القرار يصبّ في تنفيذ هدف آخر مِن أهداف  مؤامرة الربيع العربي الذي كنت أشرتُ إليه في كتابي "الربيع العربي يتمخض عن خريف إسلامي بعيون صهيونية" الصادر عن دار بيرم بتونس سنة 2012: إطاحة الرئيس بشار الأسد ونظامه لأنه رفض عرضا بالسماح لأنبوب الغاز القطري أن يمر من الأراضي السورية إلى تركيا فأوربا لحرمان موسكو من عائدات تصدير الغاز إلى أوربا.

وبالتالي يجب أن يتذكر أشقاؤنا في "قسد" أنّ واشنطن التي لا يساوي عندها حلفاؤها أكثر ما تساويه عندها أحذيتها التي تستبدلها بدون تردد عندما تهترئ، تضع حليفيها اللدودين نظام أردوغان و"قسد" السورية  في مواجهةٍ مصيريّةٍ، لأنّ "أردوغان" يرفض أن يجد على حدوده "دويلة كرديّة" لذا يهدد منذ ماي 2022 المنصرم بشنّ عمليّة عسكريّة جديدة لإنشاء منطقة آمنة بعمق 30 كيلومتراً مربعاً داخل الأراضي السورية وعلى امتداد الحدود التركية مع سورية، وفي الوقت نفسه لا يخفى عن قيادة "قسد" أنّ القواعد العسكرية  الأمريكية التي كانوا "حصان طروادة" لتسللها إلى الأراضي السورية، لن تحميهم مِن أي هجوم تركي، لأنّه مِن المستحيل أن نشهد مواجهة عسكرية بين دولتين عضوين في "حلف الناتو" كرمى لعيون طرف ثالث خارج "الناتو" حتى لو كان هذا الطرف ميليشيا استقوت بواشنطن في ظروف معقدة. والذي لا جدال فيه أنّه ليس بمقدور "قسد" لوحدها مواجهة جيش بقوّة الجيش التركي.

قِيلَ إنّ  "قوات سوريا الديموقراطية" كانت تترقب بفارغ الصبر صدور القرار بعد ما بذل اللوبي الموالي لها في واشنطن جهوداً حثيثة لتمريره، بينما حكومة دمشق وحكومة أنقرة كانتا تتخوفان من صدور القرار بسبب تداعياته المحتملة على وحدة الأراضي السورية من جهة، ولأنه سيعزز من نفوذ الوحدات الكردية التي تعتبرها أنقرة تنظيماً إرهابياً ويكرسها كقوة أمْر واقع تتمتع بما يشبه الحكم الذاتي في مناطق سيطرتها، من جهة ثانية.

 ولكنّ شَمْلَ المناطق التي تسيطر عليها تركيا بقرار رفْع العقوبات لم يُهَدّئ مِن رَوْعِ "أردوغان"، بل تعمّد اللجوء إلى التصعيد كاشفاً عن أنّ تركيا ستعلن عملية عسكرية ضد حزب "العمال الكردستاني" شمال شرقي سوريا على غرار عملية "المخلب" الجارية الآن في شمال العراق، بغض النظر عمن يقف وراء تلك التنظيمات "المعادية".

ويبدو أنّ حكومة "أردوغان" تذهب في مناوراتها بعيداً عندما يدلي أحد وزرائها بتصريحات "تتودد" إلى الحكومة السورية  وتتوقع منها تحالفاً مع أنقرة ضدّ "قسد"، ذلك أنّ الحكومة السورية  لا تفوتها حقيقة أنّ الأتراك مُحْتَلُّون لأراضٍ سورية بينما "قسد" مكوّنة مِن مواطنات ومواطنين  سوريين لا أحد ينكر أنهم قاوموا إرهابيي "داعش" وقوات الاحتلال التركي ببسالة، ولكنّ خطيئتهم التي عليهم أن يُبادروا إلى محوها أنهم ساعدوا الاحتلال الأمريكي شريك الاحتلال التركي في "الناتو"، على أن يطأ جنودُه بأقدامهم السوداء التراب الوطني السوري ويبني عليه القواعدَ العسكرية الاستعمارية وأن يسرق العسكر  الأمريكان نفطنا وآثار بلادنا بتعاون مع مرتزقة مِن "قسد" إيّاها عيْنها.

إذَنْ على "قسد" أن تُدْرِكَ أنّها إنْ لم تطلب عاجلا من القوات الأمريكية مغادرة الأراضي السورية التي تسيطر عليها وتنسّق مع الدولة السورية وحلفائها  ليس فقط لإقامة نظام دفاعي يصد العدوان التركي المُرتَقَب، بل ولتحرير كلّ شبر من التراب السوري تسيطر عليه القوات التركية وعملاؤها المرتزقة والتكفيريون في حلب وإدلب خاصة، إنْ لم تفعل ذلك  فعليها أن تتوقَّعَ عدوانا تركياً بتواطؤ أمريكي قد يُفضي إلى سيطرة "أكراد سوريين" موالين لتركيا على غرار قيادات وقواعد أحزاب أكراد أربيل والسليمانية  الذين تركوا رفاقنا  مناضلات ومناضلي حزب العمال الكردستاني PKK  لمصائرهم الغامضة.

أمّا الحكومة السورية فلا ريب في أنّها لن تسمح بنعْت "قسد" بالقوة الإرهابية عندما تقاوم الاحتلالين الأمريكي والتركي، مقاومة شرعيّة يدعمها ميثاق الأمم المتحدة، بل ستكون لها السند والمدد في ذلك، و ستدعم مطالب مواطنينا الأكراد في نيل حقوقهم الوطنية والقومية أسوة ببقية أشقائهم السوريين العرب وفق فهْم الرفيق "عبد الله أوجلان" لهذه الحقوق في إطار الدولة الوطنية وبعيدا عن الأوهام الانفصالية التي دَسّها الأمريكان في بعض العقول المريضة.