كــــــلــــمة و رؤيــــــــا

عن حنا مينة (الشيوعي) في إسكندرون واللاذقية

د. عبد الله حنا- فينكس:

بتاريخ 25/12/2004 التقى كاتب هذه الأسطر مع الروائي المعروف حنا مينة في بيته بدمشق. كما أجرى كاتب هذه الأسطر لقاء ثانياً مع حنا مينه بتاريخ 31 – 7 – 2007. وسنضع بين قوسين ما نقلناه حرفياً عن مينة أما بقية النص فهو نقل غير حرفي أو ملخّص، وأحياناً توضيح لما تحدث به الروائي الكبير.
لم يكن الهدف من اللقاء معرفة حياة الروائي وأعماله، بل كان القصد التعرف على النشاط الشيوعي، الذي شارك فيه بحميّة الشاب حنا مينة، في كل من إسكندرون واللاذقية. وننقل ما جادت به ذاكرة ابن الثمانين عاماً الروائي حنا مينة.أ عبد الله حنا
على أثر مذابح الأرمن في الأناضول في آذار 1915 التجأت أعداد كبيرة من الأرمن إلى إسكندرون، ومنها انتقلوا إلى جهات أخرى. لعب الجناح اليساري من الأرمن دوراً في تعريف الناس بالشيوعية. وترأس المنظمة الشيوعية الناشئة الأرمني أرتين ماخيام والعربي قاسم رضوان، الذي كان عاملاً في المرفأ. عام 1938 زار زكي الأرسوزي إسكندرون قادماً من إنطاكية وافتتح مكتباً لعصبة العمل القومي. وعندما اعتقلت السلطات الفرنسية الأرسوزي قامت مظاهرة في إسكندرون قُتل فيها الشيوعي عبد المسيح، وكان حنا إلى جانبه.
افتتح الحزب الشيوعي في إسكندرون مكتباً علنياً أواخر 1936 في أجواء انتصار الجبهة الشعبية ومجيء مستشار فرنسي يساري إلى إسكندرون. في تلك الأثناء قدم خالد بكداش إلى إسكندرون في سيارة للنقل العام من نوع "فورد أبو دعسة". " فخرجنا لاستقباله يتقدمنا أرتين ماخيام وقاسم رضوان. وفي اليوم التالي جرت حفلة خطابية في سينما روكسي خطب فيها ابن عبده يني من عصبة العمل القومي، ثمّ تلاه خالد بكداش فأدهش الناس وهم يسمعون خطبته. وأنا لم أسمع خطيباً مثل خالد بكداش. كان الحشد كبيراً والازدحام لا يوصف. وقد تمزّق بسبب الازدحام أول جاكيت ألبسه اشترته لي أمي".
عام 1938 تمّت المؤامرة بين تركيا وفرنسا – حسب تعبير مينة – وأُعطي اللواء إلى تركيا، ودخل الجيش التركي إسكندرون. عام 1939، وجرت هجرة الأرمن والعرب من لواء إسكندرون. وذكر مينة أنه كان ابن ستة عشر ربيعاً عندما هرب في أيلول عام 1939 من إسكندرون إلى اللاذقية عن طريق كسب. وخوفاً على الأرمن وضعت فرنسا بواخر لنقلهم من ميناء إسكندرون إلى أماكن أخرى. و" يمكن الرجوع إلى روايتي الفم الكرزي، التي تتحدث عن وضع الأرمن".
التجأ إلى اللاذقية هرباً من احتلال الأتراك لاسكندرون الشيوعيان أرتين ماخيام وقاسم رضوان. وحول قاسم رضوان وأصله من حمص لنقرأ ما جاء في تقرير الشرطة في حمص:
"أن اجتماعاً عقد في دار السيد قاسم رضوان بدعوة من السيد عبد الرحمن الترجمان الطالب في التجهيز ليلة 30 – 31 تموز 1939 حضره خمسة عشرة شخصاً من الشباب المنتمين للحزب الشيوعي، وأنهم تناولوا في اجتماعهم هذا حديث العامل وضرورة مناصرته ومصير البلاد السورية. وأن الشرطة نظّمت محضراً بحق صاحب الدار لإفساحه المجال لعقد اجتماع غير مرخص به في داره لإيداعه القضاء. هذا مع العلم أن صاحب الدار أي قاسم رضوان ، لم يكن موجوداً أثناء انعقاد الاجتماع وأن مفتاح بيته كان مع السيد عبد الرحمن الترجمان".
(انظر اضبارة الداخلية في مديرية الوثائق التاريخية في دمشق. والتقرير مذيل بتوقيع محافظ حمص بتاريخ 25 آب 1939).
معنى ذلك أن قاسم رضوان لم يُقِمْ في اللاذقية إلّا مدة قصيرة وحطّ الرحال في أوائل 1939 في حمص، حيث، على ما يبدو كان مكلفاً من الحزب بالعمل في حمص. ولنقرأ ما كتبه ظهير عبد الصمد في ذكرياته:
"فوجئت بطرابلس بوجود الرفيق قاسم رضوان. وهذا الرفيق لم أكن أعرفه سابقاً، وإنما كنت أسمع به من أحاديث وذكريات الشيوعيين القدامى في حمص. فهذا الرفيق كان من أبناء لواء إسكندرون، وقد انتسب إلى الحزب في أوائل الثلاثينيات، وكان مسؤولاً لمنظمة الحزب الشيوعي في لواء إسكندرون، وقاد نضال منظمة الحزب في اللواء ضد مؤامرة التتريك... وقد استقر الرفيق قاسم رضوان فترة في حمص يعمل في منظمة الحزب الشيوعي السوري فيها، وكان له إسهام ودور في تطوير المنظمة، ثم انتقل إلى لبنان. ولم يعد يسمع به أحد في حمص إلّا من خلال الذكريات".
ويذكر ظهير أنه التقى بالمصادفة عام 1948 في أحد بيوت الشيوعيين بقاسم رضوان، الذي استقر في طرابلس وتزوج شيوعية لبنانية وأخذ اسماً جديداً وهو على صلة بالحزب الشيوعي اللبناني.
{نقلاً عن ظهير عبد الصمد: "بعض أضواء على تاريخ منظمتي حمص وطرابلس الشيوعيتين في مجلة "دراسات اشتراكية" أيلول – تشرين الأول 1993، ص122.}
لم يكن في مدينة اللاذقية عام 1939 شيوعيون. وكانت الناس تخلط بين المذهب الشيعي والشيوعية وتسمي الشيوعيين في البدء "شيعيين". أوائل سنة 1940 جاء إلى اللاذقية عبد الجليل سيريس وهو رئيس الشيوعيين في حلب لتنظيم الشيوعيين في اللاذقية. "وأسسنا" - والكلام لمينة – "أول خلية شيوعية في اللاذقية" مؤلفة من حنا وعامل في الريجي وشخص من بانياس. وعندما بدأ الفرنسيون الفيشيون برئاسة الجنرال دانتز بملاحقة الشيوعيين طُلب من حنا مينة أن يذهب إلى كسب للمشاركة في قيادة الشيوعيين هناك تحت اسم "جواد". وكانت المنظمة الشيوعية الأرمنية بقيادة الحداد اسحق حنانيان. وأردف مينة إن هذه الأمور موضحة في رواية "الفم الكرزي"، التي تُرجمت إلى الأرمنية.
بعد هرب الفيشيين والجنرال دانتز ودخول الفرنسيين الديغوليين مع الإنكليز توقفت ملاحقة الشيوعيين، فعاد مينة إلى اللاذقية، وعمل حنا حمّالاً (عتّالاً) في المرفأ، ومن تلك الحياة استوحى روايته "نهاية رجل شجاع". "كان العمل الحزبي الشيوعي صعباً في اللاذقية. وشرعنا في تأسيس نقابات في المرفأ وفي شركة الريجي. وتفاصيل ذلك موجودة في رواية نهاية رجل شجاع".
كان يصل إلى اللاذقية 25 عدداً من جريدة "صوت الشعب". وكان حنا يبيع الجريدة الشيوعية علناً في الشوارع . ويمضي مينة قائلاً: كنت أبيع بين عشرة وخمسة عشر عدداً حسب التيسير. وكانت هناك صعوبة في توزيع الجريدة بسبب مقاومة الإقطاعيين. أزلام الإقطاعيين لاحقوني وضربوني بالخنجر ليلاً في أحد الشوارع وظنوا أنني قد مت. لم أذهب إلى المستشفى خوفاً من معاودة الاغتيال".
"بعد حادثة الاغتيال هذه بمدة" – يمضي حنا مينة متحدثاً – "ذهبت إلى بانياس ومررت على صديقي أبو حبيب وهو صاحب دكان. عندما دخلت اصفرّ وجه أبو حبيب وخاف سوء العاقبة. كان في الدكان ثلاثة من زلم الإقطاع يشربون عنده، أذكر منهم يوسف خلاص. لم أتراجع وتذكرت قول الشاعر معين بسيسو: (الصمت موت، والقول موت، قلها ومت).
دخلت واتجهت إلى حيث يجلس زلم الإقطاع و عرّفتهم باسمي وبدأت أتحدث إليهم وشربت عرقاً معهم.
قالو لي: أنتم ملحدون.
أجبت: نحن لسنا ضد الدين، نحن نؤسس نقابات للدفاع عن العمال ونطالب بإصلاح الطرق.
قال يوسف خلاص:... أخت اللاذقية ما فيها رجال تقتل حنا مينة. كنّا نظن حنا مينة رجّال كبير، فإذا به نحيل لطيف.
قلت: يا يوسف أنا أمامك اقتلني.
فأجابني بالحرف الواحد: "لا لن أقتلك، وعار علينا أن نقتلك بعد أن صار بيننا خبز وملح وعرق".
ذكر حنا مينة أن الشيوعيين أخذوا ينشطون في بعض قرى اللاذقية. وكثيراً ما كان برفقتهم العلوي المذهب بدر مرجان المسؤول عن منظمة الشيوعيين في الساحل، وكان يأتي من طرابلس من باب التبانة. وبعد اللقاء مع الفلاحين والخروج من الاجتماع كان بدر يبقى معهم ويتحدث إليهم. ويقول مينة:
"كان بدر يحكي معهم خمس كلمات يفهمونها أكثر من أقوال كارل ماركس. وعندما أتى وهيب الغانم حكى معهم ست كلمات فقشّطنا من كان معنا من الفلاحين وراحوا مع وهيب".
سنة 1947 جرت الانتخابات النيابية، وترشح وهيب الغانم ممثلاً لحزب البعث. يقول مينة: "تلقينا تعليمات من الحزب (الشيوعي) في دمشق أعملوا حتى لا ينجح وهيب الغانم في الانتخابات". وذهب مينة إلى بلدة كَسَبْ حيث للشيوعيين قوة بين الأرمن, وعمل مينة على منح أصوات الناخبين وكان عددهم كبيراً في كَسَب إلى أمين رويحة وبدوي الجبل ولم يفز الغانم عام 1947 بالنيابة. وبعدها أخذ بدوي الجبل يردد: الشيوعيون انتخبوني ليس حبّاً بي بل كرهاً بوهيب الغانم.
ذكر حنا أن من الشيوعيين المعروفين في اللاذقية آنذاك: طبيب الأسنان محمد الحاج حسين وأصله من جسر الشغور، وقد تعرّف على الشيوعية أثناء دراسته طب الأسنان في فرنسا. عبد الرحمن مسبوت من اللاذقية. عز الدين نعيسة من ريف اللاذقية (بسنادة). كما زار منظمة الحزب من دمشق نجاة قصاب حسن, الذي قام بزيارة محافظ اللاذقية برفقة عز الدين نعيسة، كما ورد في جريدة "صوت الشعب". وقد تألف وفد اللاذقية إلى مؤتمر الحزب الشيوعي في بيروت أواخر 1943 أوائل 1944 من: د. محمد حاج حسين، عبد الرحمن مسبوت، حنا مينة، كامل كساب. ولم تسعف الذاكر حنا في معرفة مشاركة نعيسة في المؤتمر أم لا.
وبعد مضي تسع سنوات على إقامة حنا مينة في اللاذقية قادماً من إسكندرون غادرها إلى دمشق عام 1948، حيث بدأ نجمه يصعد تدريجياً مع روايته (المصابيح الزرق) وعمله في الصحافة والسياسة، وكان له دور أساسي في تأسيس "رابطة الكتاب السوريين"، التي تحوّلت إلى رابطة الكتاب العرب. ومن ثمّ رحيله هرباً من "المباحث السراجية" وعودته إلى الوطن. وهو يحمل الآن على منكبيه ثلاثين رواية تُقرأ في سائر أصقاع العالم العربي...
* * *
سالت حنا مينة عن كيفية هروبه أيام الوحدة بين مصر وسورية، فأجاب:
غادرت دمشق قبل أسبوع من اعتقالات الشيوعيين في ليل 31/12/1958. والسبب قدوم بعثة صحفية مصرية إلى سورية للكتابة عن فرح السوريين بالوحدة. فؤاد الشايب مدير الدعاية والأنباء طلب مني مرافقة الوفد المصري في جولته بسورية، قائلاً لي: إن هذا الطلب جاء من مصر وليس بمبادرة مني. قلت له: لن أذهب. فأجابني: يا حنا أن تنحني للعاصفة خير من أن تُكسر. أجبته: أفضل لي أن تكسرني العاصفة من أن انحني لها. مساء ذلك اليوم لم أنم في بيتي، وفي اليوم التالي غادرت إلى طرطوس. وبوسائلي الخاصة عبرتُ سراً النهر الكبير الجنوبي بواسطة شخص حملني على ظهره خائضاً في الماء. ومن إحدى قرى عكار سافرت بالسيارة إلى طرابلس ومنها إلى بيروت. وبمساعدة الدكتور جورج حنا وموافقة الحزب الشيوعي غادرت إلى الصين، وهذا مفصّل في رواية "الثلج يأتي من النافذة"...
***
وفي ختام اللقاء دوّن حنا مينة بخط يده على الورق الذي أنقل حديثه عنه الفقرتين التاليتين:
"كرّست كل ما كتبت في سبيل الفقراء والبؤساء والمعذبين في الأرض ولمّا أزل".
"أنا لست متواضعاً ولا مغروراً والصفتان سيئتان في رأييِ. والكتابة هي اللذة الكبرى والرذيلة الكبرى ولا خلاص منهما سوى بالموت".