كــــــلــــمة و رؤيــــــــا

د. عبد الله حنا: مدحت باشا بين خصومه ومؤيديه

مع اصطدام أمواج الإصلاح والتنوير بصخور الاستبداد السلطاني والركود المجتمعي أخذت هذه الصخور ذات البنية الإقطاعية بالتصدع، وهذا ما دفع انصار الاستبداد السلطاني لشنّ حملة على "الأفكار الافرنجية" مبعث هذه الأمواج. فأنصار الاستبداد السلطاني يرون في "الأفكار الافرنجية" مصدر السموم التي تُبثّ بين رعايا الدولة باسم الدستور والحرية، قائلين ان اهل الشرق لا يحكمون إلا بالاستبداد. فالسلطان هو الدستور وإرادته هي الشريعة وكل ما عدا ذلك ضلالات إفرنجية تؤدي إلى خروج نساء المسلمين سافرات كنساء الكفار.
كانت الأدبيات العربية الصادرة قبل الربع الأخير من القرن العشرين تندد باستبداد السلطان عبد الحميد وتشيد بمناهضيه. ومباشرة بعد إعلان الدستور على اثر ثورة الاتحاد والترقي في شباط 1908 صدر كتاب سليمان البستاني في اكتوبر 1908 بعنوان قبل الدستور وبعده وتصدرته عبارتي الإهداء التاليتين: "إلى روح مدحت باشا".. "إلى أبناء الوطن العثمانيين".
ويذكر كاتب هذه الأسطر ان معظم الأدبيات العربية الصادرة في منتصف القرن العشرين كانت تشيد بمدحت باشا ودوره في بناء الحياة البرلمانية والدستورية. ومن اهم الأدبيات العربية المشيدة بمدحت باشا نشير إلى كتاب "مدحت باشا أبو الدستور وخالع السلاطين" لقدري قلعجي الصادر أواخر اربعينيات القرن العشرين في بيروت في سلسلة أعلام الحرية. وبعد مرور نصف قرن قامت وزارة الثقافة السورية باصدار الكتاب عام 2007 في طبعة جديدة بادر لانتقائها والاشراف عليها ووضع مقدمتها محمد كامل الخطيب.
جاء في مقدمة الخطيب: "بالطبع كان للرجل المريض بعض المحبين وخاصة من أبنائه, وهم الذين أرادوا حقا شفاءه من مرضه, وبمعنى آخر أرادوا له الإصلاح والتقدم ومن ومن هؤلاء مدحت بببباببا-باشا الرجل الذي يسمى شارع من أعرق شوارع دمشق وأجملها باسمه, الرجل الذي ساعد أبا خليل القباني وحضّ على فكرة المكتبة الظاهرية وساهم في تأسيس الصحافة والتعليم في سورية..."
ومن فضائل مدحت باشا على دمشق والحركة الثقافية انه انقذ مخطوطات دمشق وأسس أول مكتبة عمومية في السلطنة العثمانية. والدافع لإنشاء هذه المكتبة هو كثرة سرقة المخطوطات مما اثار ضجة علماء دمشق ووجهائها، ودفع الوالي العثماني مدحت باشا بتشكيل لجنة برئاسة مفتي دمشق سماها "جمعية المكتبة العمومية". وفيما يلي نص قرار مدحت باشا بتأسيس المكتبة العمومية، التي اُطلق عليها لاحقا اسم المكتبة الظاهرية:
"لما كانت الكتب الموقوفة والمشروطة لاستفادة العموم قد حصرت بأيدي المتولين وحرمت الناس من مطالعتاه صدر الأمر الجليل من ملجأ الولاية، وأعطي قرار من طرف مجلس الإدارة توفيقا للتقرير المتقدم من هؤلاء العاجزين المؤرخ في 15 شباط سنة (1295) على أنه يجري جمع الكتب والرسائل الموقوفة الكائنة تحت أيدي المتولين ووضعها بخزانة مخصوصة عمرت وأنشئت بتربة الملك الظاهر في المحل المخصوص المعمر لأجل ذلك جوار تربة السلطان صلاح الدين لأجل أن تصير المنفعة عمومية، ولا يحرم من الاستفادة والمطالعة التي هي أجل مقاصد الوقف بل لأجلها وقف ويتأسس بذلك مكتبة عمومية".
***
على عكس الأدبيات العربية الصادرة في عهد النهوض الوطني والمشيدة بمآثر مدحت باشا أخذت الأدبيات العربية في عهد التراجع النهضوي وصعود الاسلام السياسي في الربع الأخير من القرن العشرين تكيل التهم يمينا ويسارا لمدحت باشا. و أهم التهم التي وجهها انصار عبد الحميد في اواخر القرن العشرين لمدحت باشا هي:
- انه ينتمي في الأصل إلى يهود الدونمة.. انضمامه إلى المحافل الماسونية مما ساعده على الوصول الى منصب الصدارة العظمى.. كان على صلة بالانكليز ساعيا الى وضع الدولة العثمانية تحت الوصاية البريطانية.. خَطَطَ لإعلان الجمهورية في الدولة العثمانية.. كان مدمنا على الخمر وكثيرا ما فضح سكره أسراره.
- عبد الحميد نفسه يتهم مدحت باشا في مذكراته بأنه: كان يتعامل مع الانكليز.. ويأخذ مالا من دولة عدوة لنا، وهذا أمر لا استطيع أن أقبله على نفسي وأنا في الحكم وأخيرا نفذ صبري وأخرجته من الحكم.. مدحت باشا مستبد وينادي بالديموقراطية.. الثوار بقيادة مدحت باشا يدمنون الخمر.. إني برئ من دم مدحت باشا.. مدحت باشا لم يفهم من الديموقراطية إلا معنى تقليد الغرب.. السلطان عبد العزيز لم ينتحر وإنما قتله ثوار تركيا الفتاة.. الانكليز أعدائي يرشون قائد جيشي.. وزيري الأعظم وقائد جيشي عميلان لأعدائي.. مدحت باشا ثوري يريد أن يرث المُلك العثماني.. مدحت باشا ماسوني.. أعدائي من رجال تركيا الفتاة كلها أعضاء في المحفل الماسوني الإنكليزي...
الحلقة القادمة مدحت باشا والخمر