كــــــلــــمة و رؤيــــــــا

د. عبد الله حنا: عبد الرزاق دلالة يروي نشاط فرج الله الحلو في حلب

خريف 1934 – مطلع 1936

عبد الرزاق دلالة من مواليد 1919في حلب حي القصيلة. التقينا به في داره في حلب بتاريخ 7/4/1988. وسننقل عنه ما سمعناه حول مهنته، وكيف تعرف على فرج الله الحلو وعمل تحت قيادته عام 1935, ثم ذهابه إلى موسكو وعودته إلى حلب, وما قام به من نشاط سياسي حتى ستينيات القرن العشرين.
وسننقل كلامه محوّلا إلى اللغة الفصحى أو القريبة منها, مع المحافظة قدر الإمكان على الكلمات والتعابير التي استخدمها أثناء الحديث. وفي كثير من الأحيان سننقل كلامه حرفياً موضوعاً ضمن قوسين.
***
والده عبد الله دلالة عمل في البدء مُغَرْبِلا في مطحنة قباوي, التي كانت تسير بقوة جر الدواب. ثم عمل والده وكيلا على أملاك زاهد حسني باشا في شرقي حلب حتى وفاته عام 1942.
تعلم عبد الرزاق في البدء في مكتب خاله الشيخ محمد أبو قوس. ثم دخل المدرسة الشرقية, وهي مدرسة خاصة في حي الفرافرة, على نفقة زاهد حسني باشا. وعندما أنهى الصف الرابع قال له والده: "الصنعة أحسن لك من العلم" و"صنعة في اليد أمانة من الفقر".
***
وهكذا "دخل صنعة الكندرجية عند عبد القادر جوكان, الذي ملك دكاناً في السويقة لبيع الأحذية الرجالي والولاّدي. والورشة في خان قرطبة عبارة عن غرفة مستأجرة في الخان". كان يعمل في مشغل (ورشة) معلم الأحذية عبد القادر جوكان "ثلاث أربع أجارى وثلاث أربع صناعية". الأجير عبد الرزاق كان يكنّس المحل ويقوم بتشميع الخيطان وتغيير الماء المنقوعة فيه الجلود وخدمة بيت المعلم عبد القادر وأجرته "برغوث في الجمعة"، والبرغوث من بقايا العملة العثملية وأقلها قيمة. وبما أن عبد الرزاق كان أصغر الأجراء فإن المعلم كان يرسله دائما إلى بيته لتلبية طلبات ربة المنزل. ومما ذكره أنه كان يحمل العجين للفرن ويعود بالخبز إلى البيت... الخ .
كانت أجرة الأجير "برغوث في الجمعة". وعندما يبلغ أشده ويظهر نشاطا في خدمة المعلم ترتفع الأجرة إلى "مجيدي في الجمعة"  وهذه "المجيدي" كان عبد الرزاق يأخذها من معلمه بعد صلاة يوم الجمعة. أما أجرة الصانع فكانت تصل إلى "12 مجيدي في الجمعة". وأجرة الصانع مرتبطة بمقدار إنتاجه. وعلى العموم كان الصانع ينتج يوميا زوجي أحذية. وكان المعلم عبد القادر يشتري المواد الأولية كالمسامير والجلود والخيطان من "الكرستجي", وهو تاجر وسيط يشتري بالجملة ويبيع لصانعي الأحذية.
***
كان من صنّاع الورشة أبو علي شنينة وأبو أحمد بني وهذان أخذا يتحدثان في الورشة مع الأجير عبد الرزاق وزميله الأجير رضوان رضوان. وننقل ما تحدّث به عبد الرزاق حرفياً:
" كانوا يتحدثون معي أنه فيه حزب للعمال ما يدخل فيه لا أغنياء ولا معلمين "{المقصود معلم الحرفة، الذي كان وضعه المادي أفضل من الصانع} وتحدثوا أنّه فِيه دولة شيوعية استلَمَ العمال الحكم فيها. أنا ورضوان تحمسنا من كلامهم وطلبنا منهم أن نجتمع مع رفاقهم. فذهبنا إلى بيت أبو علي شنينة في جب القبة وكان يسكن في غرفة بالأجرة".
حضر الاجتماع, وكان الوقت صيفاً (1935), صانعا الأحذية: أبو علي شنينة وأبو عبدو بني, والأجيران عبد الرزاق دلالة ورضوان رضوان, والصحفي بيير شاداروفيان، وناجي وهو اسم سري عرف عبد الرزاق فيما بعد أنّ اسمه فرج الله الحلو. قال عبد الرزاق:
" تكلم شاداروفيان عن الامبرياليزم وهذه آخر مراحل الرأسمالية. ونحن لا نفهم ما يقول". ثمّ " تكلم فرج الله الحلو عن الاتحاد السوفييتي وكيف استلم العمال الحكم. ونحن يجب أن ننشط حتى نصل إلى مطالبنا. أنا ورضوان كنّا نملّ من الحديث وصرنا نلعب مع بعضنا..." ويذكر عبد الرزاق أن فرج الله كان يتوقف عن الحديث عندما كان عبد الرزاق ورضوان يتحدثان مع بعضهما, ويستأنف الحديث عندما يصمتان ويعيرانه الاهتمام.
اهتم فرج الله بعبد الرزاق وتوسم منه خيراً لأنه يقرأ ويكتب, في حين أن الآخرين كانوا أميين. وأخذت العلاقات تتوطد بين الأجير اليافع عبد الرزاق وفرج الله الحلو الباحث في منتصف ثلاثينات القرن العشرين, عن قوى بشرية يمكن أن تكون الركائز الأولى للتنظيم الشيوعي في حلب.
أخذ فرج الله الحلو يتردد على الورشة التي يعمل فيها عبد الرزاق في خان قرطبة. وعندما شعر أنّ زيارته لعبد الرزاق ورضوان تلفت النظر, صار يأتي مساء بعد انصراف العمال لمقابلتهما والتحدث إليهما في الأمور العامة والثقافية. وبعد أن وَثِقَ فرج الله من اليافعَين وتوثَقت العلاقات معهما أكثر, شرع يكلفهما بمهمات حزبية. وضرب عبد الرزاق مثلا على ذلك: أتى عبد الرزاق في وقت معيّن إلى كراج السوري وانتظر حتى رأى فرج الله يتحدث مع شخص. وعندما ابتعد فرج الله عنه تقدم عبد الرزاق وسلّم عليه فأعطاه "الشخص" رزمة ورق مربوطة بخيطين، فحملها عبد الرزاق وهو في ثياب العمل على كتفه واتجه إلى الورشة, حيث كان رضوان بانتظاره. وبعد قليل أتى فرج الله وفي إثره بيير شاداروفيان ففتحا الرزمة وكانت تحتوي, حسب ما يتذكر عبد الرزاق, على جريدة عليها شعار "المنجل والمطرقة"  {هي جريدة "الفجر الأحمر", التي كان يصدرها الحزب الشيوعي سرا ومطبوعة على الجلاتين} ومجلة "الشرق العربي", التي تُطبع في فرنسا, ومجلة "الدهور" التي تطبع في بيروت. يقول عبد الرزاق: كنت أقرأ وبقدر ما أفهم أحاول أن أفهّم الآخرين. ويذكر عبد الرزاق أنّ مجلة "الدهور" كانت "طوباوية صعبة على الفهم". كان رضوان يأخذ مجموعة من المطبوعات ويعطيها لربيع محبك ابن حارته في قاضي عسكر حي بكرجي. وهكذا أخذت تتكرر العملية. وفي كثير من الأحيان كانت الرزمة مليئة بالمناشير, التي يوزعونها تحت الأبواب أو يلصقونها على الحيطان.
***
" بعد خمس ست أشهر "(أواخر 1935) - كما ذكر عبد الرزاق - "دعاني فرج الله للذهاب معه إلى بيروت. أنا كنت ألبس شروال. فرج الله اشترى لي جاكيت من البالي بخمس ليرات ورضوان أعطاني بنطلون أخيه". وهكذا ظهر عبد الرزاق بمظهر الشاب "المودرن", الذي لا يلفت النظر في بيروت. استقل فرج الله وعبد الرزاق البوسطة الذاهبة من حلب إلى طرابلس وجلسا في مقعد واحد. أثناء الطريق أفهم فرج الله عبد الرزاق الهدف من السفر وهو الوصول إلى بيروت. في ذلك الوقت كان عمال الأحذية في بيروت قد أعلنوا الإضراب لتحقيق مطالبهم بزيادة الأجور. وأبلغ فرج الله عبد الرزاق أنه سيخطب في العمال المضربين باسم عمال الأحذية في حلب. وأعطاه مئة ليرة كي يقدمها للمضربين معلنا أنها تَبَرّع من عمال الأحذية في حلب إلى رفاقهم العمال في لبنان. يقول عبد الرزاق:
".. أنا صار لي اسم سري لا أذكره الآن.. وصلنا مساء إلى بيروت. استأجر لي فرج الله غرفة في فندق. وفي اليوم الثاني نقلني إلى غرفة لرفاقنا نمت فيها الليلة الثانية. وفي الصباح الباكر أخذني صاحب البيت إلى مكان اجتماع المضربين. سألت مرافقي: هل المضربين أرمن أم عرب؟ فأجاب: عرب. وصلت مع الرفيق إلى مكان فيه شجر زيتون وعدد كبير من العمال. بعدها صعدت (اعتليتُ ) مكاناً مرتفعاً وأخذت أخطب ارتجالاً وبلغة عامية حلبية. وقدّمت لهم المئة ليرة وقلت: "عمال حلب فرحانين فيكم". وبعد الخطاب جاء الدرك فهربنا..".
رجع عبد الرزاق إلى البيت, الذي بات فيه, فوجد فرج الله بانتظاره. وقال عبد الرزاق أن فرج الله هنّأه على خطابه وقال له: "نحن لا نرسل العمال رأساً إلى الثورة, بل نمرّنهم على المعارك تدريجياً. المعارك الصغيرة أولاً ومنها الإضراب. وبعد الظهر أرسلني فرج الله إلى حلب بعد أن دفع أجرة الطريق". وفي حلب عقدتْ المجموعة الشيوعية اجتماعاً تحدث فيه عبد الرزاق عن "رحلته وخطبته". وبعد نجاح عبد الرزاق في بيروت, شرع فرج الله يكلّف عبد الرزاق بتوزيع المناشير على طلاب المدارس في التجهيز واللاييك. ونبهه أن يكون حذرا وأن يهرب بسرعة عندما يسمع ضجة. وفي كثير من الأحيان كان عبد الرزاق يوزع المناشير برفقة رضوان رضوان.

لفت نشاط عبد الرزاق أحد صُنّاع الورشة. فقد لاحظ الصانع أن عبد الرزاق ورضوان يتأخران في القدوم إلى العمل وأن أنتاجهما تدنى فأخذ يراقبهما, وهمَّ ذات مرة بضرب عبد الرزاق فهرب من أمامه . ولكن الصانع لم ينشر أخبار نشاط عبد الرزاق بل تكتم عليها, وحسب تعبير عبد الرزاق: "كان يستَّر عليّ".
***
" بعد رجوع فرج الله من بيروت بأسبوع أو أسبوعين جاء إلى الاجتماع ومعه رزمة من صور ارنست تيلمان زعيم الطبقة العاملة الألمانية. وشرح لنا أن تيلمان وديمتروف لم يحرقا الرايخستاغ, والشيوعيون لا يحرقون ولا يقومون بهذه الأعمال. تيلمان معتقل وعلينا أن نطالب بإطلاق سراحه". {تجدر الإشارة أن ربيع محبك ذكر أنه استلم مجموعة من صور تيلمان لتوزيعها، كما رأينا في الفصل السابق. كما أنَّ عامل صب البلاط جبران حلال ذكر أيضاً أنه وزع مع مجموعة من الشيوعيين صورة تيلمان في دمشق وكانوا يبيعونها بفرنك من أجل المساهمة لإطلاق سراح تيلمان من سجون النازية}.
حمل عبد الرزاق رزمة الصور المذيّلة بعدد من الشعارات الداعية إلى حرية تيلمان وذهب إلى بيت أبو علي شنينة لتنظيم توزيعها. وهناك داهمت الشرطة البيت بقيادة رئيس مخفر باب الحديد أبو حسن الأرغلي. فما كان من المجتمعين إلا أن شرعوا في "لعب الشدّة" (الورق) وأسرعت أم علي بإحضار الشاي. وعندما دخل رئيس المخفر الغرفة لم يفتش البيت بل قال: "بسْ يا شباب اجتماعات ما بدنا".
أثناء إحدى المظاهرات العارمة, التي عمّت حلب زحفت جموع الطلاب في حلب تواكبها جماهير شعبية غفيرة باتجاه منزل الزعيم الوطني إبراهيم هنانو. وذهب عبد الرزاق وأبو علي شنينة ومعهما مجموعة من المناشير لتوزيعها على الحشود. "وكان الطلاب", كما ذكر عبد الرزاق, "يهتفون لهنانو ونحن نهتف معهم. وبعدها صرنا نحن نهتف بسقوط الاستعمار الفرنسي وهنانو يهدئنا. ولكن الطلاب تحمسوا وصاروا يهتفون معنا بسقوط الاستعمار. وحالاً أتت الدرك والمصفحات وصار ضرب رصاص فانهزمنا نحو باب جنين وسكّرت الأسواق. وأثناء هربنا راحت جاكيت أبو علي شنينة".
***
بعد أن تمرّس أجير مهنة الأحذية, عبد الرزاق دلالة بالنضال وأبدى فطنة وشجاعة ويقظة أثناء نشاطه, فاتحه فرج الله الحلو بأمر السفر إلى موسكو. وأوصاه بالكتمان وعدم البوح لأحد بأمر السفر. وعلم عبد الرزاق فيما بعد أن اختيار السفر وقع على أبو علي شنينة. ولكنهم عدلوا عن إرساله "لأنه أمّي ويَسْكَرْ" وحلّ محلّه في السفر إلى موسكو عبد الرزاق. وبسبب صغر سن عبد الرزاق حصل من والده على الموافقة على السفر إلى مصر وتركيا وأوروبا. وأعطاه فرج الله نقوداً كي يتصوّر, ويحصل على جواز سفر.
" لأول مرة" – قال عبد الرزاق – "أخذني فرج الله إلى غرفته في حي الجديدة. الغرفة فيها تخت حديد وطاولة دف وكرسي وكتب". وفي هذه الغرفة السرية, وضع فرج الله أمام عبد الرزاق مخطط سفره إلى موسكو على النحو التالي:
اذهب إلى محطة بغداد وسترى شخصاً طويلاً، حبّة حلب واضحة في خده, وستذهب برفقته في القطار إلى استنبول. وأعطى فرج الله عبد الرزاق نشرة دورية لغرفة الصناعة في حلب لتسليمها لإدارة المدرسة الحزبية في موسكو.
وفي استنبول بقي "الرفيقان" ينتظران شهرين إلى أن وصلت سفينة شحن تجارية سوفييتية نقلتهم إلى ميناء أوديسا. ومن هناك سافرا بالقطار إلى موسكو. وكان "التفاهم كله بالإشارات". يذكر عبد العزيز أنهما شاركا في احتفال أول أيار بعد وصولهما إلى موسكو بشهرين. معنى ذلك أنهما غادرا حلب في أوائل كانون الثاني عام 1936 و وصلا موسكو في أوائل آذار من عام 1936. و في صباح اليوم التالي من وصولهما إلى فندق الكومنترن التقى بهما في مطعم الفندق في القبو "الرفيق رمزي", عرفا فيما بعد أنه "الرفيق خالد بكداش". أعلمهما رمزي ضرورة الحذر وعدم الاتصال بالناس لأن الجاسوسية الاستعمارية تتعقب الدارسين في جامعة كادحي الشرق. و ضرب لهما مثلاً أن بعض الدارسين أخذا صوراً مع البنات وعندما أنهوا دراستهم وعادوا باتجاه وطنهم, اعتقلتهم الشرطة على حدود بلادهم. ويقول عبد الرزاق " بقينا ثلاث سنوات في جامعة كادحي الشرق لا نقابل أحداً", وهما يحملان أسماء حركية.
***
تواجد في جامعة كادحي الشرق بين عامي 1936 و1938 أربعة شباب حلبية أرسلهم فرج الله للدراسة في موسكو كي يكونوا النواة الرئيسية للحزب الشيوعي في المدينة وهم:
- عبد الرزاق دلالة أجير في ورشة لصنع الأحذية وعمره قرابة 15 سنة, ومن ذاكرته استقينا هذه المعلومات.
- عبد الله فلاحة من حي بنقوسة, يقرأ ويكتب, وعمره 16 سنة, وهو عامل نول يدوي في منزله. وبعد عودته استمر في مهنته حتى أواخر خمسينيات القرن العشرين, حيث قام بالترجمة للخبراء السوفييت, الذين توافدوا بكثرة على سورية لإقامة المشاريع التنموية فيها.
- عبد الغني مصري من حي الجلوم, تعلم القراءة والكتابة في "الكتّاب". وهو من صناع مهنة الأحذية.. وكان عبد الرزاق يعرفه من حلب ولكن لم يكن يعرف أنه شيوعي.
- إبراهيم ميرزا عامل مطبعة عمره 17 سنة. وهو الذي التقى بعبد الرزاق في محطة قطار بغداد وسافرا سوية إلى استنبول فموسكو. وإبراهيم ميرزا كان فيما بعد في عداد وفد منظمة حلب المؤلف منه ومن عبد الجليل سيريس وربيع محبك ورضوان رضوان إلى المؤتمر الوطني للحزب الشيوعي في سورية ولبنان المنعقد في بيروت أواخر 1943 أوائل 1944.
إذا أمعنا التفكير في اختيار فرج الله الحلو لهؤلاء الفتيان الأربعة الحلبية الدارسين في جامعة كادحي الشرق نلاحظ مايلي:
جميعهم تحدروا من أحياء شعبية حلبية وبمقدورهم بعد تأهيلهم حزبياً أن يقودوا النضال من مواقع راسخة الجذور. فهم من نسيج المجتمع الشعبي. وهذه المجموعة "البلدية" الأصيلة اختيرت من مهن الأحذية والطباعة والنسيج, وهي المهن, التي بدأ الحزب الشيوعي ينتشر فيها. لم يكن بإمكان فرج الله إرسال عناصر مؤهلة تربوياً. فالبلاد كانت تسودها الأمية وعدد المدارس لا يتجاوز عدد أصابع اليد وهي مقتصرة على أبناء الموسرين. ومن هنا فإن فرج الله الحلو كان محكوماً في اختياره بالبنية الاقتصادية الاجتماعية وبالأوضاع الثقافية السائدة في منتصف ثلاثينيات القرن العشرين..
في صيف 1938 وصل عبد الرزاق دلالة إلى دمشق قادماً من موسكو عن طريق باريس وبيروت, بعد أن أنهى دراسته الحزبية. وفي مكتب الحزب الشيوعي في البحصة التقى عبد الرزاق بخالد بكداش, الذي أصبح المسؤول الأول والشخصية البارزة في الحزب الشيوعي. قدّم عبد الرزاق تقريراً عن رحلته الدراسية والمشاكل, التي واجهته أثناء العودة. ويقول عبد العزيز: "قال لي خالد بكداش روح على حلب واستريح ونحن نتصل بك. رجعتُ كان سكرتير الحزب سعيد السواس.
{ زارني في ثمانينات القرن العشرين سعيد السواس في منزلي بدمشق وحدّثني عن طفولته ودخوله الحزب الشيوعي وهو من عمال الميكنيك المثقفين. وهذا ما أهله أن يصبح قائدا نقابيا بارزا في الحمسينيات.{وبعدها زرت السواس في بيته بحلب لاستكمال الفجوات بعد الحديث الاول وزودني بعدد من النشرات الشيوعية القديمة. ولم يُعتقل السواس أيام الوحدة الناصرية . فبعد تجميد نشاطه الشيوعي أخذ يتقرب من حزب البعث وهذا ما حماه من الاعتقال. وإذا اتيحت الفرصة سؤخصص حلقة للسواس، إذا الله خلّانا من الطيبين }
بركتُ شهرين ثلاثة ... ورجعتُ اشتغل صانع أحذية على القطعة..". وتحدث عبد العزيز مطولاً عن المشكلات التي واجهته أثناء رجوعه إلى الوطن, لا مجال لذكرها هنا. وفي حلب "يقول عبد العزيز" عملت فرقة ماركسية من رضوان رضوان ومحمد علي الحلاق وفاضل مخلالاتي ومصطفى أسد ... وكلهم من عمال الأحذية وصرت أدرّسهم الماركسية كما درست. وهؤلاء انضموا إلى الحزب ولم أقم بأي تكتل..."

ويذكر عبد الرزاق أنه في "أيام الجوع" أيام حكم فيشي 1941 ذهب برفقة رضوان رضوان, وبدون توجيه من الحزب إلى الجامع وأعلما المصلين أن الخانات مليئة بالأغذية, مما أدى إلى قيام المصلين بالهجوم على الخانات...
بعد مدة ترك عبد الرزاق مهنة الأحذية وتوظف في الأوقاف. وبعد ثلاث سنوات طُرد من الأوقاف بسبب ميوله الشيوعية فعاد إلى مهنته, مهنة صنع الأحذية. وفي هذه الأثناء تمكّن بجهده الخاص من قراءة الكتب المدرسية ونال شهادة الكفاءة في صيف 1952. وفي خريف ذلك العام عُيّن معلماً في مدرسة ابتدائية في قرية أبو الظهور. وسرعان ما انتشر خبر نشاطه السياسي الشيوعي. فأتت دورية من الدرك "كبسة" باغتته وفتشت غرفته المستأجرة تفتيشا دقيقاً بحثاً عن المناشير أو الكتب. ولما لم يجد الدرك شيئاً لفت نظرهم صورة رجل معلقة في الغرفة, فقالوا له: "هذه صورة خالد بكداش". ولكن صاحبة المنزل تدخلت وأعلمتهم أن الصورة تخص زوجها المتوفي.
سنة 1956 نُقل معلم المدرسة الابتدائية عبد الرزاق دلالة إلى حلب وبقي معلماً فيها حتى اعتقاله في أوائل عام 1959 من قبل "المباحث السلطانية", وبقي في السجن مدة من الزمن ولم يُطلق سراحه إلا بعد حملة تدجين هدفها قتل الروح الكفاحية لدى السجين السياسي والقضاء على تنظيمات المجتمع المدني ووضع البلاد تحت هيمنة القوى الأمنية...، التي لا نزال نعيش مرارة بطشها ...............................
***
الحلقة القادمة مقدمة كتاب (مخطوط لم يُنشر بعد)
الإستبداد السلطاني لعبد الحميد

متسترا بعباءة الخلافة
بين مؤيديه ومعارضيه