كــــــلــــمة و رؤيــــــــا

بعد 22 عاماً على الغياب.. مازال الأسد مُحركاً للتاريخ

فينكس- أُبي حسن:

في مثل هذا اليوم من عام 2000 غيّب الموت الرئيس الراحل حافظ الأسد بعد أن حكم ثلاثة عقود، حوّل خلالها سوريا إلى ورشة عمل و بناء، و نهض بها نهوضاً لافتاً للأنظار (على الأقل في العقد الأوّل من حكمه، بالرغم مما تخلله من تحديات و صعاب)، و الأهم أنّه ارتقى بموطن الأبجدية الأوّل و عاصمة بني أمية من كرة تتقاذفها الدول الإقليمية الكبرى و الدول العظمي إلى لاعب من الطراز الرفيع، فولّى زمن الانقلابات و عهد الفوضى و عدم الاستقرار، كما بات حكم التجّار و أكذوبة ديمقراطية خمسينات القرن الماضي (ما يسمى بالكتلة الوطنية و حزب الشعب) من الماضي البعيد، و لا بأس من الاشارة هنا إلى أن الكتلة الوطنية كانت تمثّل مصالح تجّار دمشق، فيما ولاؤها السياسي لآل سعود، بينما حزب الشعب يمثل تجّار حلب في حين هواهم السياسي للحكم الهاشمي في بغداد، و كان آخر همهم النهوض بوطنهم الذي كان أغلبه ريفاً مهملاً يعيش على هامش الحياة.

عندما تبوأ الأسد الأب، حفيد الصحابي دحية الكلبي، سدة الرئاسة في سوريا، لم يكن المناخ الدولي في صالحه، و كذلك الأمر في الواقع السياسي الإقليمي، و مع ذلك باشر بعيد استلامه الحكم بالإعداد لحرب تشرين 1973، و كان النصر حليفه بل حليف الأمة العربية، و بمعزل عن تداعيات الحرب و ما آلت إليه و ما تخللها من أمور لا تسرّ، سجل التاريخ أنها الحرب الأولى التي ينتصر فيها العرب على عدوهم التاريخي في هذا الوجود.

شهدت السنوات الأولى من حكم الرئيس الأسد المؤسس، على الأقل حتى عام 1976، انفتاحاً سياسياً مشهوداً، و حرية تعبير مقبولة جداً قياساً بما سبق حكمه، و هذا ما قاله صراحة و كتبه الزعيم اللبناني الراحل كمال جنبلاط في كتابه "هذه وصيتي" و للكتاب اسم ثان بعنوان "من أجل لبنان". و مصداق قولنا نجده في وجود معارضي نظامه من الحركات السياسية الأخرى خارج المعتقلات من قبيل "الحزب الشيوعي- المكتب السياسي"، و جماعة البعث اليميني الذي ظل موالياً للقيادة القومية بزعامة ميشيل عفلق حيث مقره في بغداد، و غيرها الكثير من الحركات التي لم يدخل بعض رموزها المعتقلات إلّا بعيد مناصرتهم لحزب الشياطين (خوّان المسلمين) في ارهابهم الذي ذاق منه الشعب السوري و حتى الدولة السورية الأمرّين، بعد عام 1976. و من يعود إلى الصحف السورية الصادرة بين أعوام 1970 و حتى عام 1980 يلمس ذلك الانفتاح جلياً.

قلنا أن المعطيات الدولية لم تكن في صالح الرئيس حافظ الأسد، فليس سرّاً أن الاتحاد السوفييتي صديق العرب و حليفهم كان يعيش آواخر أيام مجده متجهاً نحو الانحدار المتسارع، إذ كانت بوادر تفككه تلوح في الأفق، في ظل هذا الوضع اضطر الأسد  إلى دخول لبنان عام 1976 ليضع حداً لحرب عبثية أرادها الغرب الاستعماري في الخاصرة الرخوة لسورية بغية إلهائها فيها و إشغالها عن القضية الفلسطينية من جهة و عن التنمية داخل سوريا من جهة أخرى، فكانت النتيجة أن واجه الاسد هناك العدو الاسرائيلي في معارك عدة لعل أبرزها معركة السلطان يعقوب التي حدثت (من باب الصدف) 10 حزيران 1982 و كان النصر فيها حليف سوريا؛ و قبل أن نطوي صفحة لبنان هل من داع للإشارة إلى دوره الكبير في احتضان و رعاية كل مقاومة ظهرت فيه ضد الاحتلال الصهيوني؟ و لم يكد يأتي عام 1977 حتى حطّ الرئيس المصري الاسبق أنور السادات رحاله في "اسرائيل" معلناً خروج مصر من معادلة الصراع العربي- "الاسرائيلي"، منتقلاً بها إلى المعسكر الأمريكي لقناعته بأن السوفييت ضعفاء. و في ظل هذا المناخ الاقليمي و الدولي المضطرب قامت الثورة الايرانية ضد الشرطي الامريكي في المنطقة و نعني شاه ايران، و تكللت بالنجاح عام 1979 و هي ثورة لم يتوان الأسد عن دعمها و مدّ كل سبل المساعده لها لاسيّما أنها أعلنت  تبنيها لقضية العرب المركزية ألّا و هي القضية الفلسطينية، و طالما برهنت الثورة الإسلامية عن صدق تبنيها هذا و مازالت.

بالرغم من وعورة الواقع و تلبّد المناخ الدولي، كان الأسد أهم صنّاع التاريخ الحديث للمنطقة، و صناعة التاريخ هنا بالمعنى الإيجابي، فعندما قام الرئيس العراقي المخلوع صدام حسين بحربه العبثية مع ايران و التي استمرت ثماني سنوات، وقف غالبية العرب عن جهل أو حقد أو سذاجة مع صدّام في تلك الحرب التي أنهكت الضرع و الحرث في العراق، و سرعان ما تبيّن أنها لم تكن لغايات قومية و لا تخدم القضايا العربية، و هذا ما دفع بالأسد الأب للوقوف إلى جانب ايران منبهاً عرب الخليج (أبرز داعمي صدام في حربه المجنونة) أنّ الرئيس العراقي سيتجه إليهم بعد أن تضع حربه مع طهران أوزارها، و صدقت نبوءة الأسد و اعترف الكويتيون له بذلك عقب احتلال صدّام حسين لبلادهم في 2 آب 1990، و هذا ما أقرّ به و رواه أيضاً د. أسامة الباز المستشار السياسي للرئيس المصري الأسبق حسني مبارك.

عانى الأسد من أمور ثلاثة يُرجح أنها عرقلت مسيرة التطور الذي كان ينشده لوطنه، و هي على التوالي: حرب لبنان، و حربه ضد إخوان الشياطين الذين كانوا ينفّذون مشروعاً غربياً و كانوا مجرد أدوات وضيعة و قذرة بيد الغرب، و المحاولة الصبيانية لشقيقه عام 1984، و المؤكد أن هذه العوامل الثلاثة إضافة إلى التآمر المستمر للغرب على سوريا أثّر على التطور الذي كان يرغبه الرئيس لوطنه، و بالرغم من تلك الصعاب حققت سوريا في عهده ازدهاراً ملحوظاً لسنا في صدد الحديث عنه.

ثمة أمر تنبغي الإشارة إليه في هذه المناسبة، ألّا و هو حال قارنا بين الأسد المؤسس و بين الزعيم جمال عبد الناصر الذي شكّل حالة فريدة في تاريخ الأمة العربية المعاصر، سنجد أنّ الرئيس عبد الناصر عندما استلم زمام الأمور في مصر كانت الأمة العربية في ذروة نهوضها و المدّ العربي يبلغ أقصاه، كما كان الحليف السوفييتي في أوج قوته، و مع ذلك فكّر عبد الناصر -في لحظة ما- في إيجاد صيغة سلام مع العدو الإسرائيلي، لكنه سرعان ما تراجع عنها، في حين عندما استلم الأسد الأب سدة الحكم في وطنه، كانت الأمه العربية في طور الهبوط، و كان المد العربي يعيش انحساراً، فيما الحليف السوفييتي يتخبط في مشاكله الداخلية إلى أن بلغ نهايته المعروفة، و مع ذلك رحل الأسد دون أن يصافح عدواً و دون أن يلوّث حبر تاريخه بتوقيع "سلام" مع العدو التاريخي للعرب و الإسلام و العروبة في زمن تهافت فيه الكثير من الزعماء العرب لتوقيع اتفاقيات استسلام مع ذلك العدو.

نعم، شكّل حافظ الأسد حالة فريدة و مشرقة في تاريخ العرب المعاصر، و لعله هو الزعيم العربي الوحيد الذي ما زال يحرك التاريخ من مثواه على الرغم من مضي 22 عاماً على الغياب.