كــــــلــــمة و رؤيــــــــا

من راعٍ للبقرات الى مدرس وباحث أكاديمي في فرنسا

د. جوليان بدور- فينكس:

رحلة حياتي قد تكون فريدة لا تشبه رحلة اي شخص آخر. شاءت الصدف، أنني ولدت من أب وأم لم يحالفهما الحظ بالذهاب الى المدرسة، وأنجبا تسعة أطفال. العائلة كانت تعمل في الزراعة وتسكن في قرية صغيرة جداً (أبي مكة) بدون طريق معبد أو كهرباء. الحياة فيها كانت ربما قاسية لإعتمادها على الزراعة كمصدر دخل وحيد، لكنها كانت تنعم بالهدوء والسكينة وتسبح في مناخ صاف خال من أي تلوث، وبيئة وطبيعة من الجمال المذهل. عند بلوغي سن السابعة تم افتتاح مدرسة إبتدائية في القرية في عام ١٩٦٣ من أجل استقبال اطفال قريتي وأطفال حوالي عشرة قرى المحيطة بها. كان هناك مدرس واحد، الأستاذ وجيه قادرو رحمه الله من أبناء القرية، لتدريس شعبتين فيهما حوالي ١٠٠ طالب. بسبب عدم وجود طريق معبد وبعد القرية عن المدينة لم يكن احد من المدرسين من خارج ابناء القرية يود الخدمة في القرية. تصورا كان على الأستاذ وجيه تدريس وتعليم حوالي ١٠٠ تلميذ من السنة الأولى حتى صف السادس.
نظراًً لمحدودية دخل أسرتي وضعفه، كان عليّ، كجميع أطفال القرية، العمل مبكراً منذ سن الخامسة، لمساعدة الأهل في العمل بالأرض من أجل تأمين الحد الادنى من الدخل المادي..
بالنتيجة ومنذ سن الخامسة اذاً، وخلال العطلة الصيفية، طلب مني والدي أن أستيقظ باكراً من أجل اصطحاب البقرات الى الحقل. صغير السن والقامة، القطيع لم يكن يهابني. فمثلاً لم تكن البقرات والفدادين يعدلوا عن إلحاق الأذى بالمحاصيل عندما كنت أصرخ بها. كما أن الحمار كان يرفض أن أتسلق على ظهره وكان كلما اقتربت منه يرشقني برجليه (يلبطني). مما اضطرني الى بذل جهد كبير والمشي على الأقدام عند اقتياد القطيع الى الحقل الذي كان يبعد ساعة واكثر من البيت. استمرت هذه الحالة عدة أشهر الى أن ساعدني والدي بالصعود على ظهر الحمار وفهم هذا الأخير بأنني سأكون "خياله". استمريت برعي البقرات، بعد الدوام بالمدرسة أو خلال العطل الصيفية من سن الخامسة حتى السادسة عشر. في كل يوم كان عليَّ إذًا الاستيقاظ قبل الخامسة صباحاً واصطحاب القطيع الى الحقل ومن ثم العودة الى البيت الثانية عشر ظهراً. نعاود الكرة بعد الظهر، ونخرج القطيع من جديد من الساعة الثالثة الى حتى غروب الشمس.
عندما كبرت وبلغت سن الشباب تغيرت طبيعة العمل. فحلت مهنة قطاف وشَكْ الدخان مكان رعي البقر. ولكن بدلاً من الاستيقاظ الساعة الخامسة مع البقرات كان عليّ الاستيقاظ الرابعة صباحاً والقيام بقطاف شوال دخان نوع بصمة (ذي الاوراق الصغيرة) والعودة الى البيت قبل الساعة السابعة صباحاً. كما كان عليّ، بعد تناول الفطور، الجلوس طوال النهار وشك ١٤ خيط دخان. استمر الحال على هذا المنوال حتى قدومي الى فرنسا في عام ١٩٨١.
بعد حصولي على الشهادة الجامعية من كلية الاقتصاد والتجارة في حلب، بدرجة امتياز، شاء الحظ أنني حصلت على منحة دراسية من فرنسا من أجل الحصول على دكتوراة بالاقتصاد. وهنا بدأت قصة جديدة من حياتي اكثر صعوبة ومشقة من التي قضيتها في سورية. بالاضافه الى العمل من أجل كسب المال، كان عليّ أيضاً تحمل معاناة الوحدة والعزلة وفقدان حنان الأهل والأصدقاء وتعلم اللغة من الصفر (ولادة جديدة). الصعوبات كانت متعددة قاسية وهائلة (والبعض منها سببه جنسيتي السورية) والرهانات كذالك. بمعنى ممنوع عليّ العودة للبلد بدون الحصول على الدكتوراة مهما كلفني الأمر. بعد الدفاع عن أطروحة الدكتوراة في عام ١٩٩٢، في مدينة اكس ان بروفانس، كان عليّ ايضاً الانتظار أربع سنوات قبل أن أنجح في مسابقة تعييني كأستاذ مدرس في الجامعة الفرنسية لجزيرة ريونيون التى تقع في المحيط الهندي وتبعد عن فرنسا حوالي عشرة الالاف كم.
أخيراً، بالرغم من الصعاب والمشقات التي واجهتها يمكنني القول بانني حقاً من المحظوظين لأمرين: الأول لكوني ولدت في بلد هو بالنسبة لي من أجمل وأعرق البلدان ومن أب وأم، لا يعرفان القراءة والكتابة ، لكنهما زوداني ومداني وأعطياني من الدروس والخبرة والقيم والانسانية ما تعجز عنه أكبر وأعرق الجامعات. الأمر الثاني هو ان حياتي المهنية في التعليم والبحث تمت في جزيرة في غاية من الجمال تتميز عن غيرها بتنوع سكانها وجمال تضاريسها ومناخها وموقعها الجغرافي.
وأخيراً بقي علي ان اقول بان رحلتي لم تنته بعد، اذ بقي عندي حلم كبير. اذ أود بعد تقاعدي القريب ان أقضي أغلب وقتي في قريتي بين أحبتي وأهلي وجيراني و أن اقوم بمساعدة شعبي وخدمة بلدي ما أستطعت الى ذلك سبيلا.