كــــــلــــمة و رؤيــــــــا

في أربعين ارتقاء شهيد الزلزال د. فايز عطّاف.. كتب د. يحيى الشمالي

د. يحيى الشمالي:

اليوم هو الأربعون على رحيل الأبطال فايز وهالا و من صعد معهما. مهما رثيناكما و أعددنا في خصالكما لن نختم الكتاب، ولو أمضينا عمرنا نكتب و كان البحر مداداً لأقلامنا.
فايز وهالا لبسا ثوب الطهر، فكانت رسالتهما المحبة والسلام لعالم بلا ألم.
رافقت فايز منذ سنين عندما كنا طلاباً في كلية الطب في جامعة دمشق، إلى أن سكنا معاً في مشفى المواساة في الاختصاص.
الدكتور فايز هو الانسان الطبيب الجراح اللامنتمي، هو العابر لكل القارات، هو السلام والآمان عندما يحل الخراب والدمار، بلسم كل ملهوف ومريض، والشفاء المرتجى لكل من عشق الحياة.
كل مريض عند الدكتور فايز هو أمة بذاتها و شفاء مريضه يعادل إصلاح أمة.
ففي إحدى زياراتي الى سوريا وكنا قد خطفنا بعض الوقت لتناول طعام العشاء معا في جبلة و حاول أن يؤجل كل اتصالاته ومواعيده، لكن ذلك عكس التيار وطبيعي أن لا يكتمل اللقاء. فلم تمض الدقائق الأولى و إذ باتصال يأتيه من أحد مشافي اللاذقية يخبره من أن مريض قصور كلوي لديه خللاً في ناسور شرياني وريدي و يحتاج لاصلاح، فما كان منه إلا أن توجه مباشرة إلى حيث يجب أن يكون وتأجل كل شيء لأعوام تلت.
انضمت هالة إلى مجموعتنا في الدراسات العليا في دمشق، قسم الداخلية، لتكون رفيداً قوياً وشريكاً في معظم النشاطات والتي توافقت في كيميائيتها وبكل الثواني مع فايز، وليتكلل ذلك الانسجام والتوافق فيما بعد باقترانهما بمسيرة حب و عطاء أسطورية.
انضم إلينا فيما بعد بعض الأصدقاء وغدت مجموعة مميزة. ومع الأيام كنا نسعد عندما نسترق سويعات من الزمن بعد يوم مضنٍ في خدمة المرضى لنشاهد مسرحية في صالة الحمراء أو فيلماً سينمائياً في صالة الكندي وبعدها يحتد النقاش والنقد والجدل.
لغة هالة أكثر ما كانت فييحيى الشمالي و فايز عطاف4 النظرات والبسمات بصوت رتيب منخفض و أسارير وجه تقرأ بها محدثها في ثوان.
في أيام الاختصاص من ثمانينات القرن الماضي، وكنت للتو قد قرأت رواية "شرق المتوسط" لعبد الرحمن منيف. و اعتقدت أنني تقدمت علي فايز بالقراءة والرواية، حيث اصطنعت صدفة لأحاوره كوني أصبحت مثقفاً كما يهيئ لي، و إذ به يعد لي كل رواية كتبها عبد الرحمن منيف منفرداً من "سباق المسافات الطويلة إلى حين تركنا الجسر إلى النهايات إلى... إلى" أو شريكاً مع جبرا ابراهيم جبرا في "عالم بلا خرائط" و تعليقه على كل رواية وكل ما كتبه الاثنان معا. يا الله، فايز أنا لن أسالك كم رواية في الأدب العربي قد قرأت حتى الآن و لا كم رواية ترجمت للعربية و اطلعت عليها، ولكني أسالك كم رواية في المكتبة العربية لم تقرأها أو تسمع بها أو تعلّق عليها أو تنتقدها بعد. كان يقول دوماً و يكرر كم نحن بحاجة الى قرّاء، كم نحن بحاجة إلى أن نعي ونفهم مانقرأ، كم نحن بحاجة إلى أن نبني الفكر الذي هو أقوى من أي سلاح و أنجع طريق لبناء الصناعة والزراعة والاقتصاد وبالتالي الحضارة والانسان.
لم أجرؤ على النقاش معه في اي موضوع يتعلق بالطب أو الفلسفة، بالتراث، بالتاريخ، بالخلق أو بنشأة الأديان ليس لقلة علمي في تلك الأمور، بل لأني مقلّد و مكتسب للمعرفة و أناقش فيما أقرأه او فيما يكتبه الآخرون، بينما كان فايز يقارب أي موضوع للنقاش بإبداع وابتكار جديد كل مرة وبطريقة إقناع لم أعهدها في حياتي حتى الآن ولا يحتاج لمرجع، وما ذلك إلا قصة ابداع حقيقة امتدت إلى أدواته الطبية ومهاراته الجراحية وفنونه التقنية وأسلوبه في التعليم، ولتكون كل عملية يقوم بها معزوفة متكاملة بكل حرفية ومهنية، وهيهات أن نتعلم من ذاك الشلال الدافق.
كان يكتب كل ليلة ما يراه مناسباً ويخطر في باله من تأملات أو رؤوس أقلام للقاء ما أو مناسبة قريبة، وكذلك بين العمليات أو عندما ينتهي من رؤية مريض، يكتب على قصاصات ورق أجدها أحياناً متناثرة فوق السرير، تحت المخدة بين صفحات كتبه ودفاتره، و أعتقد أنه حافظ على تلك الميزة، لعله في يوم ما إذا أذن له مرضاه سيجمع تلك الكتابات وينشرها، وقد تكون الكثير من تلك القصاصات لاصقته في ثراه أو ارتقت قبله للسماء.
في إحدى الليالي وقد كنت ضيفه في البناء نفسه الذي هلك. فايز أيقظني فجراً و طلب مني أن أسمع الآذان من جامع قريب إلى منزله، كانت رسالته لي أن اسمع و انظر الى الوجه الجميل للدين أو التدين وكيف أن عذوبة الترتيل و ألحان الخلود تسبح في النفس البشرية وما الدين إلّا تسام في الأخلاق والمعاملة و ترفع عن التاريخ والمادة و الغرائز. نعم هو نفسه فايز الذي حاور عالم التاريخ فراس سواح وشاعر التجدد أدونيس و عرف عنه إلمامه بالأدب والثقافة والتراث والآثار وتاريخ اللغات والأسطورة وانتقاده لكل ما يتنافى مع التفكير السليم. كانت خدمة الانسان غايته سواء كان ذلك لصحته الجسدية أو الفكرية وكان ناشطاً في المنتديات الثقافية ومحاوراً بارعاً وراقياً لمن يختلف معه في الرأي.
في فترة من حياته توجه بفكره شرقاً ليستوطن عقل المهاتما غاندي و أحلامه في بناء الهند وقصة تجاربه مع الحقيقة، و علق كثيراً على زرادشت وليبحث في فكره وتجربته وكيف رسم نيتشة فلسفته ونشأته، ليقفز بعدها الى أقصى الغرب طاوياً الصفحات الأخيرة لغابرييل غارسيا ماركيز في خريف البطريرك.
لو قُدّر لكل مريض عاينه الدكتور فايز أن يكتب صفحة واحدة أو بعض السطور عن تجربته مع الحكيم وما تعلم منه لجمعنا موسوعة انسانية لا تقل عن خمسين ألف صفحة.
فايز تشبث بالأرض والوطن و أبناء الوطن، و لم يغادره، ارتبط بحنين لا نظير له بكل ذرة تراب، زيّن مزرعته الصغيرة بشجيرات و ورود، و وراء كل منها قصة حب و حكاية شجون و جهد فلاح أو عرق عامل، توسطت مزرعته غرفة حديدية يتيمة و بسيطة جداً أشبه ما تكون "بالعلية" يصعد إليها من خلال درج كأنه مزروع في الهواء. فمن يعرف فايز ويعرف فلسفته يعرف أن تلك المزرعة او العلية لا يمكن ان تكون إلّا له. مكان رواده بناة أجيال و بلد، تجتمع فيه البساطة والتواضع، الجمال والحياة، التصوف والزهد، السخاء والمحبة في فسيفساء عجيبة لا تجدوها في أرفع القصور.
في مزرعته المتواضعة قصة عشق للأرض رواها لي عندما قرأ "الدون الهادئ" لانطون تشيخوف و اختار سكنه في المدينة قريباً من البحر و مرتفعاً علّه يتهامس مع الموج عند الفجر وفي المغيب، فتعلقه بالبحر فاق تعلّق حنا مينا في كل رواياته. إن القيم الراقية والفكر النبيل والمعاني السامية عند الدكتور فايز جعلت منه رمزاً انسانياً ومنارة يحتذى بها.
حقاً وكلمة للتاريخ، كان حافزاً كبيراً لي في السفر لتلقي المزيد من العلم و المعارف، علّني أصل لما كنت أطمح به، و أعود يوماً إليه ليبارك عملي أو يبتسم لإنجاز قد يروق له.
لكن القدر كان أقسى وعصف بنا زلزال رحيله مع شريكته الصادقة الصدوقة بين مصدق وغير مصدق.
عهداً علينا قطعناه، ولن نتأخر عنه، سنمضي على نهج الممارسة التي أسسها فايز وهالا وسنسعى لإنجاز الرسالة والمشروع المشترك، فإن وصلنا فتلك هي الغاية و إن رحلنا قبل ذلك فعزاؤنا أننا حاولنا.

المصاب كان جللاً، و غيابهما لا ولن يعوض، ولكن الشعلة ستبقى وحملة الراية "رام" و"سارة" سيسيران بها مهما كبر الحمل وازدادت التحديات، فهما خير خلف لأطهر وأقدس سلف.