كــــــلــــمة و رؤيــــــــا

الحرف وتطورها في يبرود

المشرف على الدراسة د. عبد الله حنا- فينكس:

إعداد الدارس في المعهد النقابي بدمشق عبد الحكيم الغاوي.
في بداية الموضوع لا بد من إعطاء لمحة موجزة عن مدينة يبرود. حيث ترقد يبرود في أحضان سفوح سلسلة جبال لبنان الشرقية وتحيط بها الجبال من جميع الاتجاهات عدا الاتجاه الشرقي، حيث تطل على مدينة النبك والطريق الدولي (دمشق- حمص)، وتبعد عن مدينة النبك إلى الغرب 7 كم.
تعتبر يبرود من الأماكن السياحية الجميلة في القطر العربي السوري، حيث يوجد بها عدة مناطق أثرية قديمة رومانية. ويوجد بها عدة أودية جميلة، وأشهرها وادي قرينة ووادي سكفتة، المليئان بالأشجار الحراجية والمثمرة وكثرة الآبار فيهما، ويوجد في وادي قرينة بحيرة لا بأس بها، وعدة مطاعم ومقاصف من الدرجة الممتازة السياحية.
يبلغ عدد سكان يبرود حوالي 50 ألف مواطناً، يعيشون فوق بقعة من الأرض لا تكفي ولا لربع السكان زراعياً ورعوياً.
المنطقة الصناعية في يبرودأما من أين أتى اسم يبرود، فهناك عدة أقاويل:
- القول الأول: وهذا على لسان مواطن كبير ومسن جداً حيث قال: "يبرود يبرد من أقام بها، وسميت مع الأشياع يبرود، يعني اسمها أتى من البرد الشديد بها".
- أما القول الثاني: فإن ملكاً قديماً واسمه نمرود سكن بها، ومن اسمه أتت تسمية يبرود.
ويوجد بها مناطق تدل على أنها سكنت من قبل الرومان مثل سكفتة والجرس.
لماذا يبرود من المدن الحرفية الشهيرة حتى على مستوى الوطن العربي؟
تعود الأسباب للآتي:
- حجم الأراضي الزراعية والرعوية ضيقة ومحدودة لا تكفي لربع سكان أهلها، لذلك لجأ سكانها أو معظمهم للعمل بالحرف منذ القدم.
- دخول الكهرباء إلى يبرود عام 1940 ساعد كثيراً جداً على تطور الحرف وغيرها.
- موقعها الجغرافي والاستراتيجي، حيث تتوسط جميع قرى ومناطق ونواحي القلمون وقربها من مدينة النبك والطريق الدولي دمشق–حمص.
- المغتربون إلى دول أمريكا اللاتينية منذ القدم وإلى الخليج العربي حديثاً ساعد في بناء الحرف والمعامل والمصانع الصغيرة بأموالهم، وأيضاً بنوا مصالح إنتاجية صناعية وزراعية. "وهذا أنا شخصياً أعتبره أهم عامل"، حيث يعتبر أهالي يبرود من السكان العمليين والنشيطين، وحيث أنك لا تجد إنساناً قادراً على العمل وعاطلاً عنه، لأن المواطن اليبرودي يخلق لنفسه أي عمل كان، ولا يقعد عاطلاً عن العمل. وأيضاً يمتاز أهل يبرود بالفكر الحرفي والصناعي منذ القدم.
من خلال هذه اللمحة البسيطة نجد أن الشروط تتوفر للعمل الحرفي في يبرود، وأهم الحرف هي:
- حرفة ومهنة غزل وحياكة الشعر، وهذه المهنة عمل بها جميع أهالي يبرود دون استثناء، وهي التي انبثقت عنها الحرف والمهن الأخرى، مثل حرفة النجارة والحدادة.
- مهنة صناعة "بوابير" الكاز والغاز، حيث أن مهنة بوابير الكاز قديمة جداً.
- صناعة المدافئ وهي مشهورة جداً في يبرود.
- صناعة الأدوات الزراعية والأدوات الرعوية، حيث أنهما تغطيان حاجات قرى ومناطق القلمون.
- حرفتي النجارة والحدادة بأنواعها العربي والإفرنجي، مشهورة جداً، و تنشهر بكثرة حالياً في يبرود، حيث أنهما تغطيان حاجات قرى ومناطق القلمون.
- صناعة صناديق السيارات الشاحنة الكبيرة للمنطقة ولسورية، وحتى لدول الخليج يتم تصنيع صناديق السيارات.
- حرفة ومهنة الخياطة بجميع فروعها وأنواعها وهي من المهن القديمة جداً وتقوم بالتغطية الكبيرة والواسعة لمعظم مناطق القطر.
- المعامل الحديثة مثل معامل أكياس النايلون ومعامل البواري المعدنية ومصانع المسامير المعدنية التي انتشرت في يبرود بكثرة، ويتم بيع إنتاجها إلى جميع المناطق السورية.
- حرفة الأحذية (الكندرجية) وهي أيضاً تنتشر بكثرة في يبرود، وهي من الحرف القديمة جداً وبأنواعها القديمة والحديثة. القديمة حيث كانت الأحذية كاوتشوكية ومن النايلون. وما كان يتفرع عن صناعة الأحذية صناعة القفف، وهي عبارة عن أوعية يستعملها المزارع في نقل التراب والمحصول، وأيضاً يستعمل في أدوات البناء، وأيضاً صناعة السريجة وهي أيضاً من أدوات الفلاح وهي كاوتشوكية.
- حرف وصناعات بيتية كثيرة يقوم بها أغلب سكان يبرود، وهي سلع معدة إما للاستهلاك أو سلع معدة للبيع.
وبعد أن تعرفنا على معظم الحرف والصناعات المتواجدة في يبرود، إذاً لا بد لنا أن نعرف كيف يتم تصريف الإنتاج والسلع الحرفية المنتجة في هذه الحرف. وهي بكميات كبيرة تكفي لحاجات يبرود بعشر مرات وأكثر.
كيف يتم تصريف المنتج منذ القدم وحتى الآن؟
قديماً كان يتم التبادل بين التاجر الذي يجمع المُنتج إلى المعلم أي رب العمل، وهذا الأخير أي التاجر يقوم بدوره ببيعها إلى المستهلك، حيث كان أبناء القرى المجاورة ليبرود يشترون جميع حاجياتهم في يبرود. والقرى المجاورة ليبرود تعمل بالزراعة والرعي بشكل عام. وجميع أدوات الزراعة والرعي يشتريها أبناء القرى في يبرود.
فمنذ أكثر من ثلاثين عاماً كان أغلب التبادل بين التاجر والقروي المستهلك تبادل سلع بسلع، أي أن المستهلك القروي يأخذ حاجياته من التاجر بيبرود ويعطيه بدلاً عنها إما من منتجات المواشي أو ماشية من ماعز وغنم. أو يعطيهم منتجات زراعية (قمح، شعير، بطاطا، الخ...) وكان كل ذلك على الموسم، أي عندما يصبح الموسم الزراعي أو الموسم الرعوي يعطي المستهلك ما يريده منه التاجر لقاء ما يستجر المستهلك من التاجر أثناء العام. وهنا في هذا المجال يكون الوضع جيدا والأمور جيدة في حال المواسم الجيدة.
أما في حال المواسم غير الجيدة فهنا الطامة الكبرى بالنسبة للمستهلك القروي، فإما أن يعطيه أرضاً أو مواشي أو تبقى الديون تستمر بـ"الفايظ" أي الربى، وهنا التاجر "مثل المنشار" يستغل القروي فيأخذ محصوله الزراعي والرعوي يبيعه للغير لمستهلك آخر من أهالي يبرود، هذا من جهة. ومن جهة أخرى فإن التاجر يأخذ إنتاج ابن يبرود و يبيعه لأبناء القرى بأسعار فاحشة. وبهذا الشكل يكون التاجر هو المستفيد الوحيد والأكبر. وبهذا يكون أبناء قرى منطقة يبرود حكماً مرتبطين ورغماً عنهم بأهل وتجار يبرود.
أما حديثاً، فإن تصريف المنتجات الحرفية والصناعية يتم بتصريف محلي لأهالي يبرود أو لأهالي القرى المجاورة. إنما في هذه الحالة فإن التعامل يتم بالنقد، ويتم التصريف إما عن طريق التجار أو عن طريق المنتج مباشرة، ويكون هنا المنتج حراً لا يستعين بالتاجر، أي أنه لم يستجر (يستدين) نقوداً من أجل مهنته أو حرفته، لأن التاجر يقرض الأموال للصناع المنتجين والمعلمين الصغار الذين يعملون بيدهم وفي حرفتهم الخاصة بهم مع أبناء أسرهم.
ويتم تصريف الإنتاج حديثاً أيضاً إلى خارج منطقة القلمون أي باقي محافظات القطر، وذلك عن طريق التجار المحليين من أهالي يبرود إلى تجار من باقي المحافظات. ومن المنتجات المصدرة:
- بوابير الكاز والغاز.
- مدافئ التدفئة.
- مدافئ الحمامات.
- صناديق السيارات الشاحنة ثم تصديرها أيضا إلى دول الخليج.
- تصدير المنتجات الزراعية مثل البطاطا والفول والبازلاء (وهو إنتاج يبرود وقراها المجاورة).
- المشتقات الحيوانية مثل اللبن والصوف والجبن والخراف (وهي أيضا منتجات القرى المجاورة).
- تصدير منتجات الدجاج كالفروج والبيض، وهي تنتشر في يبرود وقراها بكثرة في الوقت الحالي.
- تصدير البواري المعدنية والتي تستعمل لمياه الجر وأيضا للأعمال في الحدادة وفي الأعمال المنزلية ولتصاوين البيوت.
- تصدير منتجات حرفتي النجارة والحدادة بأنواعها حيث يتم العمل لدمشق وحلب وحمص ومناطق ريف دمشق ومناطق أخرى.
وأيضا يوجد منتجات حرفية وصناعية كثيرة ولا يمكن حصرها، وكلها يتم استهلاكها محلياً أو لمنطقة يبرود وقراها.
ملاحظة: سألت أحد البائعين في يبرود: لمن تبيعون منتجاتكم وعلى من تعتمدون في البيع والشراء؟
رد قائلاً: "نحن نتعامل مع (البعالنة / البعلية)، أي أن أبناء قرى يبرود يقال لهم في يبرود (بعالنة / بعلية / جبلية). هذه هي نظرة يبرود إلى قراها.
******
{نذكّر أن الحلقات السابقة واللاحقة هي من إعداد المدرسين في المعهد النقابي بدمشق باشراف مدرس مادة الحركة العمالية عبد الله حنا الذي وضع منهج العمل وأشرف عليه. وكان على الدارس أن يختار الشخص، الضي يراه أهلا لإجراء اللقاء معه . وهذه اللقاءات نُشرت مطبوعة بعنوان: "صوَر من حياة مجتمعات سورية القرن العشرين" بإشراف عبد الله حنا}
حرفة نسج الشعر في يبرود
إعداد الدارس: عبدالكريم الغاوي - نقابة عمال الصناعات الخفيفة بدمشق. ( )
{الدارس عبد الكريم من بلدة قارة التي تفتقر إلى الحرف وتعتمد على الزراعة المروية المحدودة والرعي. وفي تلك الفترة كان قسم كبير من سكان قارة يمتهنون التهريب من لبنان. ولذلك لجأ الدارس إلى زميله ميشيل في يبرود للكتابة عن صناعة الشعر، كما كتب دراسة ثانية عن الحرف في يبرود وأجاد في كلا الدراستين مقدماً معلومات غنية بلغة فصحى وسبك جيد. – المشرف}
المتحدثان: معلم حرفة الشعر أبو جورج، والصانع عبدو سنقر (أبو علي) وكلاهما من يبرود. لم يذكر الدارس تاريخ اللقاء وهو إما في سنة 1987 أو 1988.
كتب الدارس:
تعتبر حرفة نسج الشعر في يبرود من أقدم الحرف على الإطلاق في يبرود وفي القطر العربي السوري. هذا ما قاله الحرفي القديم، السيد أبو جورج ميشيل عياش، والبالغ من العمر حوالي 75 عاماً ولايزال حتى الآن يعمل في ورشة لنسج الشعر.
- كيف دخلنا في معمل السيد ميشيل عياش وتعرفنا إلى المهنة عن قرب؟
أثناء دراستي في معهد الميكانيك كان لي زميل في المعهد من يبرود، واسمه ميشيل مسرّة، ذهبت إليه للبيت، وبعد أن رحب بي، قلت له ما سبب زيارتي هذه، علماً أنني لم أنقطع عنه نهائياً بعد الدراسة، كونه من يبرود وأنا من قارة ويعمل بالنبك وأنا كذلك. وقلت له: يا أخ ميشيل أريد أن التقي بحرفي "شعارة"، لديَّ بعض الأسئلة وأخشى أن لا يستقبلني، وأرجو أن يكون الحرفي ممن تعرفهم جيداً. فقال لي: تكرم، ويوجد هنا بيبرود وهو قرابتي يعمل فيها وكبير بالعمر، وبهذا الأسلوب دخلنا الحرفة والمعمل (المانيفاكتورا) الصغيرة لديه. استقبلنا السيد الحرفي أبو جورج، وبعد أن شربنا كاسة متة التي تشتهر بها يبرود قال ما حاجتكم؟ قال له صاحبي الحاجة التي نريدها. قال أهلاً وسهلاً، اسأل ماذا تريد؟
- أريد أن أعرف كم عمر هذه الحرفة؟
أجاب أنه لا يعرف عمرها بالتحديد، حيث أنه لا يعرف سوى أنه فتح عينيه عليها، وأيضاً أبوه فتح عينيه عليها، وأولاده كذلك الأمر، وأيضاً أخواته. "وأظن أن المهنة منذ أكثر من 300 عام موجودة في يبرود، وكل أهل يبرود عملوا بها على الإطلاق ولمدة طويلة جداً. وقبل عشرين عاماً كان أكثر من ثلثي يبرود يعملون بها وكانت هذه الحرفة هي مصدر رزق وعيش أهالي يبرود، ولا يوجد عمل غيرها، باستثناء البعض الذين عملوا بالرعي والزراعة وبعض الحرف البسيطة مثل النجارة القديمة والحدادة القديمة. هذا الكلام يعود تقريباً لعام 1930-1940 حيث أن قبل هذه الفترة، ومثلما قلت، كانت يبرود البلد تعمل بالشعارة عن بكرة أبيها".
- أخي أبو جورج، أريد أن تحكي لي عن بداياتك بالحرفة عندما كنت صبياً؟
"تقريباً عندما كان عمري ست سنوات، وكلما أصبح أخ من أخواتي بهذا العمر، أنزلنا أبي المحل. حيث في ذاك العمر كنت أسحب فيها الشعر لجدي ولأبي ولمن كان يعمل عند جدي، لأن جدي كان يملك أربعة أنوال في محل واحد، وكُنّا نعمل عند طلوع الشمس حتى مغيبها "من الفجر إلى النجر" دون أي مقابل".
- قلت مازحاً: أخ أبو جورج، ألم تهرب من الشغل؟
"من أين أهرب وجدي كان يحمل عصا بيده، كلما تقاعس أحدنا لوح به للكبير وللصغير، ولأبي ولأعمامي، ولمن كان يعمل عندنا. كان يقول لنا: "واعملوا بأعمالكم، واعملوا لتشبعوا الخبز". وبعد ذلك أصبحت أنْدُف الشعر، بعد أن كبرت أندف مع أخوتي... أتريد أن تسألني عن الندف وما هي؟ وكيف تتم؟" قلت له نعم.
قال: "يُجلب الشعر من الدباغة، ثم ندخله إلى الندف اليدوي".
- لماذا يذهب الشعر إلى الدباغة؟
"يذهب إلى الدباغة لدبغه وصبغه، لأنه يكون عدة ألوان منها الأسود والأحمر والأبيض والأبرش، وحسب لون شعر الماعز والحمير".
- أتستعملون أيضاً شعر الحمير؟
"نعم نستعمله عندما يكون شعر الماعز قليل... " وتابع يقول: "لقد مرّت على الصنعة أيام حيث يقل الشعر لحد كبير ونقع في أزمة المواد الأولية... فهذا يضّطرُنا لاستخدام شعر الحمير. ولقد استعملوا قديماً شعر النساء، حيث كان أكثر النساء يبعنَ شعرهنَّ وشعر بناتهن... وحتى أيام ندور في البعل / البرية ( ) على ماعز ميت لنقص شعره وشعر الحمير الميتة أيضاً".
{البعل تعني الأرض غير المروية وتعتمد على المطر. وهذه الأرض الشاسعة تُسمّى بريّة. وكانت أمهات قرى القلمون كيبرود والنبك ودير عطية، التي تعتمد على الينابيع والأنهار التي تروي الأرض اسم "أرض السقي" تميزاً عنا الأرض غير المروية وهي أرض البعل أو البرية. وكان يُطلق على القرى التي لا تجري فيها أنهار وتعتمد على زراعة الحبوب منتظرة المطر اسم "قرى بعلية". المشرف}
- يا أخ أبو جورج، ألهذا الحد تصل بكم الأمور؟
(بتنهد عميق): يا ابني، أنت لم تعش أيام الجوع قديماً، أيام "السفربرلك"، "أيام العصملي"،( ) و"أيام الإفرنسي اللعين" والجوع كافر. أيام الله لا يعيدها علينا. واليوم الحمد الله نحن وأياكم بألف خير.
- هل أنت يا ابو جورج عشت تلك الأيام؟
"نعم، أنا عشت في أواخرها، ويتابع بالحديث: لقد حدثني أبي عن الشعر، وعن العمل بها، وعن المتاعب التي كانت تلحق بهم من وراء العصملي، حيث كان التحصلدار والانكشاري الذي كان يأتي إلينا ويصادر البضاعة من عندنا ويفرض علينا الضريبة، ونبقى نحن وأولادنا بدون أكل وشرب. كل هذه الأمور دفعت بهم لأن يبيعوا ويقصوا شعر نسائهم".
- وشو الميت وشعر الحمير؟
"لك يا ابني هيدي الروايات أنتم لا تعرفونها على ما أظن تسمعون بها فقط. وبعد العصملي أتى الفرنساوي وطغى أكثر، وسرق ونهب وخرب كتير. نحن أكلنا الأمرين، وتعذبنا وشقينا بصغرنا، وياما نحن بدون أكل وكنا نتمنى نشوف بإيدينا المتليك أو برغوت أو قرش".( )
- لنعود لعملية ندف الشعر، فما هي هذه المرحلة؟
"المندف هو عبارة عن جهاز خشبي وعليه مسامير من الطرفين، ويربط بين المسامير أحبال رفيعة (مرس)، ويوضع الشعر تحت الحبال، ويبدأ بالعمل بواسطة عصا مربوطة بالحبال. العمل يتم بتحريك العصا إلى الأعلى والأسفل، مما يؤدي إلى تحريك الحبال بسرعة، وهذا ما يجعل الشعر يتطاير إلى الأمام بشكل ناعم إلى صدر الغرفة الموجود بها الندف، والغرفة طويلة الشكل، يوجد بها عدة منافذ للهواء وذلك لخروج الغبار المتصاعد من الندف. وبعد الانتهاء من عملية الندف، يُلَفُّ الشعر بشكل جزرة كبيرة، ويوضع في كيس يربط على بطن العامل بواسطة زنار يحوي حبلة طويلة للف الكيس (الجراب) ثم كلابة لتعليق كبة الغزل (شموط الغزل)، ثم قطعة صغيرة في الخشب تسمى مجدب، لربط حبل الغزل بها وجرّه حتى يدور الدولاب. ويقوم بعملية الغزل صُنّاع غزل الشعر، إما أن يشتغلوا على الكمية بالرطل، أو باليوم، ومنهم من يعمل لنفسه في بيت خاص له. والصانع (بعد أن يتقن المهنة) سوف يصبح (معلم صغير)، أي أنه يعمل مستقلاً مع أفراد أسرته لحسابه الخاص".
- ما هي أجرة غزل رطل الشعر؟
"قديماً كانت أجرة رطل الرفيع والجيد تتراوح حسب القدم، من العشر قروش وهي تتدرج إلى 50 قرشاً، ثم إلى ليرة ثم خمس ليرات سورية. وقديماً قديماً جداً كانت الأجرة بالمجيدية، وهي عملة ذهبية عصملية. أما الغزل الغليظ فكان العامل الذي يغزل غليظاً يطرد من العمل بعد القتل والتعذيب، ولا يعطى أجرة. ولكن بعد ذلك، تتقدم إلى المعلم أسرة العامل المطرود وتتدخل عليه بالوساطة لإعادته للعمل، حيث كانوا يقولون للمعلم صاحب الحرفة "اللحم لك والعظام لنا". وهكذا كان الأجير يلاقي من العذاب الأليم ليتعلم الحرفة، إلى أن يصبح صانعاً يحيّك الشعر على النول الخاص بالحياكة. أما حياكة الشعر لجعله "شقة" لبيوت البدو أو بساطاً لفرشه على الأرض أو "مخلاً" وهو خيط من الشعر الغليظ لوصل الشقف مع بعضها البعض لتصبح بيت شعر لأصحاب الأغنام والمواشي وللبدو الرحل.
- أخي أبو جورج، لا أريد أن أسألك عن عملية الحياكة وكيف تتم، ولكن أود أن أعرف من أين مصدر الشعر؟
"قديماً كانت مادة الشعر متوفرة جداً في السوق المحلية، وذلك لكثرة الماعز في سورية. ولأن معظم السكان بسورية وبالأخص أبناء القرى والبادية يعملون بالرعي قديماً، ويعود ذلك إلى حوالي أكثر من خمسين عاماً. حيث كنا نتجول في قرى المنطقة ونشتري الشعر، وأيضا نذهب إلى البادية وإلى شمال سورية ونشتري الشعر. أما في الوقت الحالي، فإن المادة الأولية قليلة جداً في سورية. ونعتمد على الجمعية الحرفية الخاصة بالحرفة لتأمين الشعر المستورد لنا من تركيا ومن الهند. وأيضا المادة قليلة وليست على ما يرام.
- لقد قلت الجمعية الحرفية، فمن هو المشرف على هذه الجمعية، أهي نقابة الحرفة أم نقابة العمال، أم ماذا؟
"الجمعية الحرفية عندنا في يبرود يشرف عليها ثلاثة من الحرفيين، وأنا رئيس الجمعية، نقوم باستيراد الشعر ونحن نوزعه على العاملين بهذه المهنة".
- هل يتم توزيعه بشكل عادل، أم كيف؟
"نحن نقوم بتوزيعه بناء على طلب الحرفي، ولا نأخذ ثمن المادة الأولية فوراً إذا لم يتوفر مع الحرفي دفع السعر فوراً، إنما نقوم بتقطيع السعر ومحاسبة الحرفي عندما يسلمنا الشقق الجاهزة للبيع، وهكذا الحرفي يأخذ مادة أولية ويعطينا منتج معّد للبيع، ونحن نقوم بتصديره للمستهلك.
- كم لديك من الأنوال، وهل يتم العمل عليها جميعاً؟
" لدي سبعة أنوال، ويتم العمل عليها جميعاً أحياناً، حسب كمية المواد الأولية المتوفرة وحسب تواجد صناعية ليعملوا عليها، لأن الصُنّاع ليسوا جميعاً عندي الآن.
- اذكر لي أهم عيوب الحرفة وأهم محاسنها؟
"أهم العيوب أنها تنشر غبار الشعر في جو الغرفة مما يؤدي إلى ضيق التنفس لدى الأجير والصانع والمعلم، ولكل من يتواجد بالغرفة بشكل مستمر وخاصة في عملية ندف الشعر. وعيب آخر هو أن لو كان إنتاج غرفة الندف يستعمله أغلب السكان لكان للحرفة كلام آخر. وباعتبار المنتَج لا يستهلكه إلا شريحة معينة من السكان، وهم البدو ومالكي الأغنام، وهؤلاء يتوقف استهلاكهم لهذه المادة أيضاً على الخير القادم من السماء، الأمطار، فعندما تكون السنين خير فإن الراعي يشتري بيوت شعر وحالته جيدة لأنه لا يطعم أغنامه ومواشيه حيث تأكل من خيرات الأرض، أما عندما تكون الأمطار قليلة وشحيحة فإن الراعي سوف يشتري الأعلاف لمواشيه ولا يستطيع تجديد بيت الشعر فيضطر المكوث تحت بيت شعر بالي إلى أن "يفرجها الله عليه بخيرات السماء".
أما أهم محاسن الحرفة فإن العمل بها جيد وجميل وسلس، حيث أن الجميع يعمل بها، أي أنه إذا ملَكَت أسرة نول وأراد رب هذه الأسرة العمل في الزراعة أو في قطاع النقل أو أي عمل آخر، فإنه يستطيع العمل أينما شاء ويعمل بحرفة الشعر أيضاً في آن واحد لأنه بإمكانه أن يعلم جميع أفراد أسرته للعمل بها، ولكنه أيضاً يعمل بها عندما ينتهي من عمله الأول. هي أيضاً حرفة لا تكلف الكثير، أي أنه من أراد العمل بها فإنه ليس بحاجة لآلات أخرى، ولا بحاجة إلى أموال لا العكس، بل إنه باستطاعة أي شخص العمل بها وبنفس بيته، هو وأفراد اسرته ومتى شاء وأراد".
***
بعد ذلك استودعنا الأخ أبو جورج، وذهبتُ إلى أحد صُنّاع الحرفة واسمه عبدو سنقر، وسألته عدة أسئلة، منها:
- الأخ عبدو، ماذا تعرف عن جمعية الشعر؟
"جمعية الشعر في يبرود قائم عليها ثلاثة معلمين، وهم من أقوى المعلمين في يبرود، وهم الذين يشترون مادة الشعر ويوزعونها مزاجياً. وهم أيضا من يصدّر ويبيع المنتَج الشُقَقْ ( ) أي القطع ونحن لا نعرف سوى العمل. أيام بإمكاننا أن نعمل بيت شعر لأحد رعاة المنطقة إذا هو أوصانا عليه دون أن يذهب إلى الجمعية. أما في باقي الحالات فإنه التاجر الموزع يأتي إلى الجمعية ويشتري من عندها الشقق لأن جميع إنتاج الحرفة أو أغلبها يأتي ويتَجَمّع في الجمعية".
- الأخ عبدو أبو علي، ما هو رأيك بحرفة الشعر عموماً؟
"حرفة الشعر من الحرف التي تميّزت بها يبرود، ومن الحرف التي أكل الخبز من ورائها أهاليها، وهي حرفة جيدة جداً إذا كانت موادها الأولية متوفرة. ولو يجري اليوم تصدير المُنْتَج إلى السعودية والخليج دون رسوم جمركية أو تقليل الرسوم الجمركية، لكان الوضع جيداً عندنا، لأن المُنْتَج التركي في الخليج ينافس المنتج السوري هناك، (وهما) مثل بعضهما، بل حتى السوري أفضل منه كثيراً. ولكن الذي يميّز المنتوجَين عن بعضهم البعض غلاء المنتج السوري، الذي يتحمل رسوم جمركية فيرتفع سعره عن المنتج التركي".
- هذا كل ما تريد التكلم به أم أنك تحب أن تضيف شيئاً آخر؟
"أحب أن تكون مهنة الشعر منظمة نقابياً، تتبع لنقابة الغزل والنسيج لتحميها وتحمي من يعمل بها وتؤمن لهم جميع ما يحتاجون من خدمات. كما أننا نود التسجيل في مؤسسة التأمينات الاجتماعية، لأن المعلمين يهرّبوننا من المشاغل عند قدوم التأمينات والنقابة (حتى لا يدفعوا رسوما لتأميننا).
أيضاً أود أن أضيف بأننا نأمل من المسؤولين ومن المدافعين عن الحرف إعادتها لماضيها العريق بأن يدعموا الحرفة وكل الحرف لأنها مصدر رزق معظم المواطنين وتؤمن فرص عمل لأغلب الناس ومصدر ثروة وطنية كبير، وذلك عن طريق تأمين المواد الأولية عن طريق النقابات ووزارة الصناعة، وتخفيف الرسوم الجمركية المفروضة على استيراد المواد الأولية وعلى تصدير المنتج إلى دول الخليج.
وأيضاً أحب أن أضيف أن ندعم الحرفة بالقروض في المصارف الصناعية لتطويرها وتنشيطها وتحسينها، لأن هذه الصنعة والحرفة تمشي في عروقنا ودمنا، ولأننا جميعاً في يبرود فتحنا عيوننا عليها، ومعظمنا حتى الممات يعمل بها. صحيح أنها حرفة قديمة، ولكننا نحس أنها قطعة منا ونحن قطعة منها، لا يستطيع أحد منا الافتراق عن الآخر برغم انتشار الحرف والمهن والصناعة الحديثة".
المتة.. ماهيتها وأماكن انتشارها.. فوائدها وأضرارها
الدمشقيون المسيحيون رواد الفنون والصناعات الدمشقية منذ ألفي سنة
معاصر العنب في "حدتون" وصناعة الدبس
الاقتصاد السوري.. أين كان قبل عام ٢٠١١ وأين أصبح الآن؟
بنغلاديش.. قصة نجاح آخر!
الأعيان والفلاحون في "مقتبس" محمد كرد علي لعام 1910
"أرباب الوجاهة" يستولون على الأرض ويتحولون إلى طبقة إقطاعية "عثمنلية" معادية للتقدم
قمة البريكس الخامسة عشرة والنظام العالمي الجديد
دير الزور وريفها في حديث مع نجار بيتون
حياة عامل في دباغة الجلود ومعمل البلور في دمشق
محمد الجاجة عامل نجارة الميكانيك – حمص
عبد الكريم معلوف النقابي المُتَنَوّر سياسيا في جمص
العمل النقابي في مهنتَيْ النسيج اليدوي والنسيج الآلي - حلب
من عامل مطعم في حلب إلى "قيادي نقابي"
نموذج لعامل ارتقى إلى نقابي مسؤول في عهد البعث- إدلب