مرحلة حكم المصارف أبعد من الانتخابات الفرنسية

عدنان بدر حلو- فينكس:

سبق أن كتب الكاتب و المناضل عدنان بدر حلو هذا المقال قبل نحو ست سنوات، و ما يزال راهناً، و تأتي أهميته أنه يجيب منذ تلك الفترة على جملة أسباب ازمة النهب المصرفي في لبنان، و هي أزمة راهنة و ساخنة كما هو معروف:
لكي نعرف ماذا يجري في فرنسا علينا أن نعرف ماذا يجرى في لبنان!!
ففي العام الماضي أجرى حاكم مصرف لبنان ما عرف باسم "الهندسة المالية" التي تحدث عنها كثيرون (سياسيون ورجال مال وأعمال وإعلام وغيرهم) فأجمعوا على أنها حققت ربحا صافيا للمصارف اللبنانية الخاصة يقدر بخمسة مليارات ونصف المليار دولار. لكن أحدا من هؤلاء المتحدثين، المؤيدين لتلك الهندسة أو المعارضين، لم يكلف نفسه عناء الإشارة ولو همسا إلى مصدر هذا الربح الدسم!
فهذه الهندسة ببساطة هي قيام مصرف لبنان باستدراج كمية كبيرة من الودائع بالدولار ومنح أصحابها (المصارف الخاصة) فائدة استثنائية. الأمر الذي عاد على أصحاب تلك المصارف بالفائدة المذكورة (التي لا يذكر مصدرها أحد!). إنه مصرف لبنان أي مصرف الدولة أي الدولة نفسها أي أموال الشعب اللبناني.
هذه العملية "الهندسية" تلقي الضوء على حقيقة أخرى أوسع منها بكثير، وهي أن المصدر الرئيس لنشاط المصارف اللبنانية الخاصة وأرباحها منذ أكثر من ربع قرن هو (سندات الخزينة) أي ما تقرضه للدولة اللبنانية بفوائد عالية جدا مقارنة مع أسعار الفائدة السائدة في العالم. حتى ليكاد المرء يستنتج أن الدولة باتت تعمل لدى المصارف وليس العكس. بل أكثر من ذلك بات أصحاب المصارف هم العامل المقرر في رسم كل سياسات الدولة في لبنان!
هذا الوضع ليس حكرا على لبنان، بل هو سمة عامة في بلدان العالم الرأسمالي في هذه المرحلة من تطورها، حيث باتت الشركات متعددة الجنسية بل العابرة للجنسيات (وعلى رأسها المصارف الكبرى) هي التي تدير سياسات هذه الدول سواء منفردة أو كمجموعات، في حين تحولت الدول الوطنية إلى مجرد إدارات محلية تقوم بتنفيذ مخططات تلك الشركات وخدمة مصالحها. وخير مثال على ذلك هو أنه عندما حدثت أزمة الريع العقاري في الولايات المتحدة عام 2008 هرعت الحكومة إلى توفير دعم بمليارات الدولارات من الخزينة الاتحادية لإنقاذ المصارف الكبرى من الأزمة الناجمة عن مضارباتها في سوق العقار.. بينما لم تكن تلك الحكومة لتقدم دولارا واحدا للمواطنين المتضررين مباشرة من الأزمة نفسها.
هذا الواقع تحول برجال السياسة في العالم الرأسمالي المعاصر من قادة سياسيين إلى مجرد موظفين في هيكلية الإدارة الدولية الكبرى المتمثلة بالشركات متعددة الجنسية وعلى رأسها المصارف الدولية الكبرى. وبسبب هذا الواقع خلت الحياة السياسية المعاصرة في الغرب من الرجالات التي كانت تعرفها الحياة العامة في بلدان كفرنسا وبريطانيا وألمانيا وحتى الولايات المتحدة. ولم يعد غريبا هذا الفارق الهائل في الحجوم بين السياسيين الحاليين في هذه البلدان وبين أسلافهم (فأين ساركوزي وهولاند – على سبيل المثال- من الجنرال ديغول أو حتى من متيران وشيراك؟ وأين الساسة البريطانيون الحاليون من تشرشل وإيدن وماكملان وحتى مرغريت تاتشر؟ وأين الألمان من إيرهارد وبراندت؟!!)
وهذا أمر طبيعي فالشعوب التي ترى أن السياسات ترسم وتقر في دوائر خارج دولها، تفتقد بالضرورة حوافز النشاط السياسي الوطني للانتماء إلى أحزاب سياسية لا يتجاوز دورها "الخدمشة" لدى المقرات العابرة في بروكسل أو دافوس أو غيرها من المراكز التي تجري فيها الإدارة الحقيقية للسياسات الدولية، بدلا من عواصمها الوطنية.
وهذا الانصراف العام عن السياسة بأبعادها الوطنية (المحلية) تم التعبير عنه في الانصراف عن النشاط السياسي الحزبي لدى العامة، وحتى الانصراف الكبير عن ممارسة الحق الانتخابي أو الخضوع فيه للسطوة الإعلامية الإعلانية التي باتت تدار من قبل مراكز المصارف والشركات الكبرى المسيطرة على وسائل الإعلام المؤثرة.
إنه التناقض الكبير بين عالمية السياسات ومحلية "وطنية" الإدارات!
وفي سياق هذه المعادلة ولدت ظاهرة وصول رجال الأعمال ذوي النشاطات الدولية إلى السلطة السياسية في أكثر من بلد. بدءا من برلسكوني في إيطاليا ورفيق الحريري في لبنان ووصولا إلى دونالد ترامب في الولايات المتحدة حاليا.. واليوم يتقدم رجل المصارف إيمانويل ماكرون على الطريق نفسه في فرنسا.
نعم إنها مرحلة إزاحة الستار عن الحكام الحقيقيين لهذه البلدان بعد أن كان حكمهم يدار "من وراء الستار"!