د. عبد الله حنا: من السخرة الإقطاعية إلى السخرة البيروقراطية

إنها العبودية المقنّعة بخدمة العلم
وخدمة العَلم تعني سوف الشباب للخدمة العسكرية في الجيش الوطني لمدة من الزمن تقصر أو تطول
نقدم هنا نموذجا لعوامل الهبوط العربي تاركين للقارئ فرصة التحليل والتحليق في سماء عالمنا العربي المتخم بعوامل الانحدار, ومنها ظاهرة السخرة البيروقراطية..
1
فرض نظام الاستثمار الإقطاعي القائم في عدد من الأرياف السورية، نوعاً من العلاقة بين الإقطاعي والفلاح اختلفت درجة تبعية الفلاح فيها للإقطاعي من قرية إلى أخرى تبعاً لظروف كثيرة ومتعددة. وفي علم الاقتصاد السياسي يقسم وقت عمل الفلاح الخاضع لنير العلاقات الإقطاعية إلى قسمين:
- الوقت الضروري اللازم لإنتاج ما يسد به الفلاح رمقه ورمق أسرته. أي الوقت اللازم لإنتاج أطعمة تجدد قوة الفلاح الإنتاجية وتبقيه قادراً على الاستمرار في العمل ويحقق العمل الزائد خلال الوقت الإضافي
- الوقت الإضافي، وهو الذي ينتج فيه الفلاح النتـاج الإضافي، أي النتـاج الفائض أو الزائد الذي كان الإقطاعي يستولي عليه على شكل حصة وإتاوات وضرائب، إضافة إلى السخرة، وهي التي تؤلف مجتمِعة الريع العقاري الإقطاعي.
وقد وجدت ثلاثة أنواع من الريع العقاري الإقطاعي هي: الريع العيني, الريع العيني الإضافي, ريع العمل (السخرة).
وما يعنينا هنا هو الشكل الثالث للريع الإقطاعي أي السخرة التي شملت الأمور التالية:
أ‌- الشكارة: وهي التزام الفلاح بحراثة أرض يخصصها المالك لنفسه ويزرعها لحسابه الخاص, والتزامه بحصادها ونقل محصولها لمخازن المالك، وهذا نوع آخر من السخرة.
ب- تقديم بعض الهدايا من منتجات الفلاحين أو دواجنهم وحيواناتهم.
ج- المشاركة في بناء قصر الإقطاعي ومستودعاته وإسطبلا ته , ومن ثمّ خدمة الفلاحات في قصر الإقطاعي. د- سخرة نقل الحطب إلى منزل المالك والتزامه بتصليح الطريق الموصل إلى قصره وتنظيفها في المناسبات.
وقد دفعت أعمال السخرة وما يحيط بها من جو إرهابي استبدادي الفلاحين للهرب وللعمل في إقطاعية أخرى السخرة فيها أخف وطأة , أو للتمرد على أعمال السخرة , أو الهرب للعمل في لبنان وأحيانا الهجرة إلى أمريكا...
2
والسؤال الهام هو هل زالت السخرة بعد القضاء على " النظام الإقطاعي " السائد في سورية حتى صدور قانون الإصلاح الزراعي لعام 1958 ؟ ..
وهل ظهرت أنواع جديدة من السخرة مع حلول الفئات البيروقراطية والطفيلية مكان كبار الملاك السابقين على دفة الحكم ؟ ..
مع تكوّن أجهزة حكم بيروقراطية مستغِلة نتيجة الإصلاح الزراعي وتأميم الرأسمال الكبير والمتوسط في ستينات القرن العشرين ، ظهرت " بورجوازية بيروقراطية " اغتنت بالتعاون مع " البورجوازية الطفيلية " في نهب القطاع العام بخاصة والمال العام بعامة , واستغلال فئات عديدة من الشعب تسعى لتسيير مصالحها في أجهزة الدولة عن طريق الرشوة في ظل غياب القانون . وقد ترسّخت أقدام هذه الفئات في الربع الأخير من القرن العشرين . وبالتدريج أخذت هذه " البورجوازية الجديدة " وتحديدا الفئات البيروقراطية منها وبخاصة جناحها العسكري في ممارسة أنواع جديدة من السخرة تشبه السخرة الإقطاعية من حيث المضمون ( استثمار الآخرين ) وتختلف عنها في الإخراج من حيث الأساليب والشكل .
فعندما يعتزم البيروقراطي بناء بيت جديد أو ترميم بيت قديم اشتراه بقصد السكن أو التجارة يستعين ب " الشباب " ممن " يخدمون العَلَم " للقيام بهذا العمل " مجانا " دون أن ينفق البيروقراطي أو الضابط قرشا واحدا .فهو يبحث , غالبا على الهاتف , عن هؤلاء الشباب الحرفيين المختصين بما يعرف بكساء البيت مثل : الحدّاد , النجّار , الطيّان , المبلّط , الكهربجي , الدهان وغيرهم ممن يُقَدَمون له " كهدية " لكساء بيته وأحيانا بيوت أقاربه أو أصدقائه إذا كان من ذوي السطوة والنفوذ . وثمّة أشكال كثيرة لهذه الخرة البيروقراطة ومنها السخرة المنزلية أو الخدمة المنزلية للجنود في بيوت المسؤولين . والطريف أن هذه السخرة المنزلية تستمر بعد موت المسؤول وتبقى السيارة وسائقها في خدمة " الخانم " ومن يلوذ بها .
***
هؤلاء الشباب القادمين لخدمة العلم يشتغلون في عملية السخرة هذه دون تذمّر لسببين :
الأول انهم في فترة خدمة العلم , التي يسمونها إجبارية والتي تستمر سنتين أو أكثر براتب لا يكاد يسد الرمق , ينظرون إلى هذا العمل بأنه استمرار للخدمة العسكرية ويحققون من ورائه مكاسب شخصية لهم . فعندما يعملون في بيت البيروقراطي او الضابط , الذي يطلقون عليه اسم "المعلم " , أو عند صديق معلمهم , أو معلم معلمهم , تنفتح أمامهم الأبواب للتهرّب من الخدمة العسكرية الصارمة والحصول على " وقت حر " يعملون به ما يريدون دون حسيب أو رقيب . فإذا عمل طيّان مثلا في اتمام بناء بيت أو أحد بيوت " المعلم " مدة ثلاثة أسابيع " يهرب " مقابلها ثلاثة أسابيع يعمل بها إما مع أهله أو بأجر في بيت آخر . وهو في هذه الحالة لا يشعر أنه مسخّر لدى " المعلم " لأنه كسب وقتا لصالحه الخاص في الوقت الذي يكون زملاؤه يؤدون المهمات المطلوبة منهم , وهو حر طليق .
3
أثناء الجولات الميدانية التي قمت بها في عامي 1984 و 1985 في الأرياف السورية لدراسة تاريخ الحركة الفلاحية أصغيت بانتباه لأحاديث الفلاحين عن السخرة الإقطاعية وفي الوقت نفسه كنت أشاهد السخرة البيروقراطية القائمة آنذاك على قدم وساق , مما دفعني لإجراء المقارنة واتخاذ العبر ...
- ذات مرة استمعت إلى حديث فلاحتين في جبال اللاذقية حول الشقاء الذي لَقِيتَاه من جرّاء نقل الحجارة لبناء عدة بيوت لعائلة الآغا الإقطاعي المعروف في المنطقة , منطقة ظهر الجبل التابعة للشيخ بدر . وبعد انتهاء الحديث توجهَت بنا السيارة وهي تصعد الجبل لبلوغ قمته فيما يعرف باسم " ظهر الجبل " القريب من الشيخ بدر . وهناك رأينا بناء ضخما يشرف على الهضاب المتناثرة الممتدة حتى تلامس البحر أو تكاد . وكانت سيارة شاحنة ضخمة تابعة للدولة مليئة بأشجار الرخام وعدد من شباب خدمة العلم يقومون بتفريغ الحمولة من أحجار الرخام لكساء هذا القصر التابع لأحد " المعلمين " , وما أكثرهم . والسخرة هنا تمثلت في وسيلة النقل التابعة للدولة والبنزين المعبّأ من مستودعات الدولة والقوى العاملة , التي تأكل من طعام الدولة وتعمل عند المعلم . والمعلم لم يدفع قرشا واحدا في هذه العملية , كما في غيرها من العمليات الجارية لإتمام البناء .
أما كيف حصل على الإسمنت والحديد والخشب وغيرها من مستلزمات البناء فهذا أمره معروف وتتداوله الألسن همسا أو وراء الجدران المغلقة . وإذا تجرأ شخص وكتب إلى الصحف , وهي رسمية كما هو معروف , فالمحرر يرتعد من الخوف ويتلف المادة المكتوبة كي يبقى محافظا على وظيفته كصحفي .
- بيروقراطي آخر اشترى أرضا بأسعار رخيصة في منطقة قطنا إلى الجنوب الشرقي من دمشق , حيث تكثر مزارع البيروقراطيين , الذين حصلوا عليها بوسائل شبيهة بما كان يجري أيام العثمانيين . جلب هذا البيروقراطي , مجانا , واعتمادا على نفوذه في دوائر الدولة معدات تابعة للدولة مع أطقمها البشرية لاستصلاح الأرض . وأتت حفّارة ملك للدولة وحفرت , مجانا , بئرا للمزرعة دون أن يدفع ذلك المعلم فلسا واحدا . وكان عدد من شباب خدمة العلم يقوم بإنجاز ما تحتاجه المزرعة وفقا لمخطط وضع مجانا أيضا , وفي تلك الأثناء وصلت الحفّارة إلى المياه الجوفية .
وشاءت المصادفة أن يصل البيروقراطي { كان في حينها رئيسا للوزراء } إلى المزرعة بسيارته ( والملك لله وللدولة ! ! ) المر سيدس السوداء في الوقت الذي أخذ ماء البئر يتدفق . في تلك اللحظة اندفع الشباب " المسخّر " باتجاه المعلم وتحلقوا حوله وهم يهللون مبشر ينه " بطلوع الماء " ويطلبون " حلوان البشارة " . ولم يكن أمام المعلم من خيار سوى تحقيق رغبة الشباب . فأرسل سائقه واشترى لهم عشرة فراريج مشوية لإطعام الشباب . والطريف في الأمر أن ذلك المعلم بقي مدة طويلة من الزمن يتحدث عن " كرمه " وأنه اشترى الفراريج للشباب من جيبه الخاص . كيف لا , والبيروقراطي اعتاد أن يأخذ ومن مصادر مختلفة وبأساليب متنوعة , ولكنه لم يعتد على العطاء . فسبحان مقسم الأرزاق ! ! !
وترى مزارع " المعلمين " ( والمقصود طبعا ليس معلمي المدارس فهؤلاء من أفقر خلق الله ) منتشرة في كل مكان ومعظمها أقيم بفضل السخرة البيروقراطية . وعندها علينا أن نتساءل , هل انتهى عهد الإقطاع ؟ ... لقد عبّر عن هذه الظاهرة , ظاهرة بعث الإقطاع بأشكال جديدة , أحد الفلاحين في منطقة قطنا , الذي سألني مستهجنا : " يا أستاذ أنت تبحث عن الإقطاعية القديمة , أكتب لنا عن الإقطاعية الجديدة التي تأكل الأخضر واليابس " . فنظرت إليه نظرة الموافق دون أن انبث بنت شفة حرصا على إتمام الجولة الميدانية , كي لا تعرقل عملها أصابع تلك البيروقراطية القادرة على عمل كل شيء في ذلك الحين من ربيع 1985 .
هذان مثالان من عشرات الأمثلة لظاهرة السخرة البيروقراطية لا يتسع المجال هنا لتتبعها وبخاصة أن الحديث عنها تواجهه صعوبات جمة . والبورجوازية البيروقراطية وأجهزتها تقف بالمرصاد مانعة من يتحدث عن هذه السخرة وغيرها من وسائل الاستثمار والنهب . وسيف " الوطنية " و " تحرير فلسطين " مُشْرَع في يد هذه البورجوازية البيروقراطية الطفيلية فوق كلّ رأس يفكر بالبوح عن هذه السخرة وغيرها من الأساليب غير القانونية لتجميع الثروات في خزائن هؤلاء .
فالحديث عن أساليب الاستغلال والاستثمار غير الشرعي يعني في نظر هذه البيروقراطية الطاغية كشف أسرار الدفاع الوطني للعدو الصهيوني المتربص على الأبواب , والعقوبة تسعيرتها معروفة ...
أليس لهذه الظواهر علاقة بحالة الهبوط في الحركة الوطنية العربية ؟ ..
3
ولعل من الأمور الشيّقة عقد مقارنة بين السخرتين :
السخرة الإقطاعية البائدة والسخرة البيروقراطية المهيمنة .
- السخرة الإقطاعية مكشوفة دون أقنعة , وتقف فيها وجها لوجه قوى الإقطاع مقابل قوى الفلاحين المحاصصين المغلوبين على أمرهم والعاملين في أرض الإقطاعي . وهؤلاء الفلاحين يشعرون بهذه السخرة ويتذمرون منها في السر أو العلن ويتمردون عليها أحيانا . أما السخرة البيروقراطية فهي مقنّعة بقناع "وطني " ... والمسخّر " من شباب خدمة العلم " لا يشعر بوطأتها ويسعى بالمقابل للاستفادة منها لصالحه الشخصي . هنا في حالة السخرة البيروقراطية يكون " الشاب خادم العَلَم " سعيدا , إن صح التعبير , بهذه السخرة لدى " المعلِّم " لأنها تفسح المجال أمامه " للهرب " برضاء المعلِّم وتمضية الوقت كما يشاء ...
والمسخَّر عمليا ليس هؤلاء الشباب فحسب بل الشعب الذي يدفع الضرائب وتقوم ميزانية الدولة بإعادة توزيع الثروة لصالح من بيدهم الحل والربط . ومن هذه الميزانية يجري الصرف على تلك السخرة سواء لتجديد نشاط القوى البشرية العاملة في السخرة البيروقراطية , أو لشراء الآلات التابعة للدولة وتستخدم للصالح البيروقراطي الخاص إلى جانب الصالح العام , ولا ننسى ثمن المحروقات التي تهدر لصالح خدمة مصالح هذه الفئات البيروقراطية وخدمها ومن يلوذ بها ...
- السخرة الإقطاعية , التي ظهرت مع تكوّن الطبقة الإقطاعية في أواخر القرن التاسع عشر , خفّت وطأتها مع النهوض الوطني الجماهيري في خمسينات القرن العشرين , واختفت مع صدور قانون الإصلاح الزراعي في خريف 1958 ورديفه قانون العلاقات الزراعية . ومع اختفاء تلك السخرة نتيجة الضربات الموجهة لملاك الأرض الكبار وإزالة مواقعهم في الدولة , أخذت ترتسم في الأفق خيوط سخرة جديدة ظهرت مع ظهور بورجوازية جديدة بيروقراطية تحالفت مع طبقة " شقيقة لها هي البورجوازية الطفيلية , التي قامت على أشلاء البورجوازية الوطنية المنتجة المزدهرة قبل تأميمها . هذه السخرة البيروقراطية أخذت معالمه تتضح تدريجيا مع ترسخ أقدام البورجوازية البيروقراطية الصاعدة والمهيمنة على كثير من مناحي الحياة وفي مقدمتها أجهزة الدولة . وقد بلغت السخرة البيروقراطية أوجها في ثمانينات القرن العشرين ولا تزال تعيش برغد ورفاهية وتبذير للأموال بصورة جنونية . ولكن إلى متى ؟ .. هل هي تعيش مرحلة شبابها أم مرحلة الشيخوخة ؟ .. والأمر بحاجة إلى دراسة ميدانية حذرة ومقنّعة بأهداف أخرى لاكتشاف طرق ووسائل وأساليب هذه السخرة , التي تصمت الوثائق الرسمية والصحف المحلية عن ذكرها .
5
وفي تقديرنا إن زوال هذه السخرة سيتم في حالتين :
- احترام القانون وتطبيقه وإطلاق حرية الصحافة وحماية الكاتب والباحث عندما يكشف القناع عن المستور والمعروف في الوقت ذاته لدى الخلق أجمعين .
- تحجيم دور البورجوازية البيروقراطية أو زوال هيمنتها , التي لن تدوم فالخلود لله وحده . وهذا ما لا تريد أن تفكر به أية فئة حاكمة في بلادنا العربية .
وأخيرا لنا كلمة نوجهها إلى كثير ممن يتصدون للكتابة عن أوضاع المجتمعات العربية وسُبل تطورها وهم يحلّقون في سماء الشهرة مطلقين الأحكام العامة , التي لا تستند إلى الواقع وهي نابعة من بنات خيالهم دون أن يكلفوا نفسهم عناء البحث عن أوضاع البُنى الاجتماعية والحراك الدائر داخلها وما يتبع ذلك من تأثيرات على مجمل الشأن العام .
هؤلاء يتحينون الفرص لنقد اليسار وإلقاء مسؤولية تردي الأوضاع عليه . ولكنهم في الوقت نفسه لا ينبسون ببنت شفة عن تلك القوى غير المنتجة , التي حشرت اليسار في الزوايا, وهي المسؤولة على ما حلّ بالبلاد والعباد من كوارث.
من المسؤول هنا عن الهبوط والتراجع؟.. الإنسان العادي وهو لا حول له ولا قوة, أم تلك المجموعات, التي لا همّ لها إلا "إملاء جيوبها" بالأصفر الرنان وتكديس الأرصدة في بلاد الأميركان؟..
{ كُتبت 2009 }