كــــــلــــمة و رؤيــــــــا

مقاربة نحو مفهوم الدولة المدنية

مروان حبش- فينكس
أحدث الانتقال بالإنسان من حالة الطبيعة إلى الحالة المدنية تغييراً بارزاً في مسلكه إذْ حلّت العدالة بدل الغريزة، وطغت الأخلاقية على أفعاله، أي أنه أصبح مجبراً على العمل وفق مبادئ جديدة مستهدياً بعقله لا منصاعاً لنوازعه، وكل هذا يوجب تقييد بعض ما كان في الحالة الطبيعية من موجبات المحافظة على البقاء مثل القوة والحرية، وإيجاد تنظيم يؤطره عقداً اجتماعياً يتحد فيه الفرد مع الجميع.
ورغم أنّ الفكرة العامة للعقد الاجتماعي تتعرض للنقد من عدة أوجه، ومهما كان الرأي في تفسير هذه الفكرة للحياة السياسية، أو في تبريرها للالتزام السياسي، أو في القول بأنها فرض أولي لا تستند إلى التاريخ في توضيحها للمجتمع السياسي والسلطة السياسية، ولكن مهما كان النقد لها فستبقى عاملاً للحرية في تطبيقها وفي استخدامها للدفاع ولدعم قضية الحرية بكل أشكالها، وستبقى وسيلة للتعبير عن فكرتين أساسيتين أو قيمتين من القيم الأساسية سيظل العقل البشري يتعلق بهما دائماً:
1- قيمة الحرية أو فكرة أن الإرادة لا القوة هي أساس الحكم.
2 - قيمة العدالة أو فكرة أن الحق لا القوة هو أساس كل مجتمع وأساس خطة كل نظام سياسي.
وهذا يعني، أن الحاكم إذا تعدى بأية صورة كانت حدود العقد الذي اختير بمقتضاه، فإنه بذلك يحل الناس من التزام الخضوع.
لقد جهد فلاسفة عصر التنوير في رسم معالم العقد الاجتماعي الذي يقوم على أساسه مجتمع سياسي وحكم مدني.
وعبر محاولاتهم هذه التي مهدت المناخ الفكري لنشأة دولة حديثة تقوم على مبادئ المساواة وترعى الحقوق، وتنطلق من قيم أخلاقية فى الحكم والسيادة.. وعبر إسهاماتهم هذه وإسهامات لاحقة ومتعددة من سياسيين وفلاسفة وعلماء اجتماع تبلورت فكرة الدولة المدنية التي تتسم بالتسامح والتساند والتعاون من أجل العيش المشترك. إن تأسيس الدولة المدنية الممثلة لإرادة المجتمع هو الكفيل بسيادة هذه الروح التي تمنع الناس من الاعتداء على بعضهم البعض من خلال تأسيس أجهزة سياسية وقانونية خارجة عن تأثير القوى والنزعات الفردية أو المذهبية، تستطيع أن تنظم الحياة العامة وتحمى الملكية الخاصة، وتنظم شئون التعاقد، وأن تطبق القانون على جميع الناس بصرف النظر عن مكانتهم وانتماءاتهم.
فالدولة المدنية المؤسسة على هذا النحو تعرف على أنها:
1- دولة القانون: لأنها اتحاد من أفراد يعيشون في مجتمع يخضع لنظام من القوانين، مع وجود قضاء يطبق هذه القوانين بإرساء مبادئ العدل. فمن الشروط الأساسية في قيام الدولة المدنية ألاّ يخضع أي فرد فيها لانتهاك حقوقه من قبل فرد آخر أو طرف آخر، فثمة دائماً سلطة عليا هي سلطة الدولة يلجأ إليها الأفراد عندما تنتهك حقوقهم أو تهدد بالانتهاك.
وهذه السلطة هي التي تطبق القانون وتحفظ الحقوق لكل الأطراف، وتمنعهم من أن يطبقوا أشكال العقاب بأنفسهم، ومن ثم فإنها تجعل من القانون أداة تقف فوق الأفراد جميعا.
2- - دولة التسامح: مبدأ التسامح ،كشرط لقبول الآخر، وكتأكيد على أن لكل مواطن مكانه في الدولة، عبر تحقيق المساواة في الحقوق والواجبات، وتسييد الثقة في عمليات التعاقد والتبادل المختلفة.
إن هذه القيم هي التي تشكل ما يطلق عليه الثقافة المدنية، وهى ثقافة تتأسس على مبدأ الاتفاق، أي وجود حد أدنى من القواعد التي تشكل خطوطاً حمراء لا يجب تجاوزها، على رأسها احترام القانون وهو يشكل القواعد المكتوبة، وتأتي بعده قواعد عرفية عديدة غير مكتوبة تشكل بنية الحياة اليومية للناس، تحدد لهم صور التبادل القائم على النظام لا الفوضى، وعلى السلام لا العنف، وعلى العيش المشترك لا العيش الفردي، وعلى القيم الإنسانية العامة لا على القيم الفردية أو النزعات المتطرفة.
3- دولة المواطنة: ويتعلق هذا الشرط بتعريف الفرد الذي يعيش على أرض هذه الدولة. فهذا الفرد لا يُعرف بمهنته أو بدينه أو بإقليمه أو بماله أو بسلطته، وإنما يُعرف تعريفا قانونيا اجتماعياً بأنه مواطن، أي أنه عضو في المجتمع له حقوق وعليه واجبات، وهو يتساوى فيها مع جميع المواطنين، فإذا كان القانون يؤسس في الدولة المدنية قيمة العدل، وإذا كانت الثقافة المدنية تؤسس فيها قيمة السلام الاجتماعي، فإن المواطنة كقيمة حضارية تؤسس في الدولة المدنية قيمة المساواة. فالمواطنون يتساوون أمام القانون ولكل منهم حقوق وعليه التزامات تجاه المجتمع الذي يعيشون فيه.
مواطنون نشيطون يعرفون حقوقهم وواجباتهم جيداً، ويشاركون مشاركة فعالة في تحسين أحوال مجتمعهم بحيث يرقون بوطنهم ودولتهم على نحو دائم، ويخلصون إخلاصا كبيرا لكل ما هو للصالح العام والخير العام.
4- دولة الديمقراطية. فالديمقراطية هي الطريق نحو التقدم الدائم لأنها تمنع من أن تؤخذ الدولة غصباً من خلال فرد أو نخبة أو عائلة أو أرستقراطية أو نزعة أيديولوجية.
إن الديمقراطية هي وسيلة الدولة المدنية لتحقيق الاتفاق العام والصالح العام للمجتمع كما أنها وسيلتها للحكم العقلاني الرشيد وتفويض السلطة وانتقالها للأكثرية، انطلاقاً من أن مفهوم الأكثرية والأقلية فيها هو مفهوم سياسي.
إن الديمقراطية تتيح الفرصة للتنافس الحر الخلاق بين الأفكار السياسية المختلفة، وما ينبثق عنها من برامج وسياسات. ويكون الهدف النهائي للتنافس تحقيق المصلحة العليا للمجتمع (إدارة المجتمع والسياسات العامة بأقصى درجات الدقة والإحكام والشفافية والأداء الإداري المتميز النزيه) والحَكَمُ النهائي في هذا التنافس هو الشعب الذي يشارك في انتخابات عامة لاختيار قياداته وممثليه، لا بصفتهم الشخصية وإنما بحكم ما يطرحونه من برامج وسياسات.
إن الديمقراطية هي الوسيلة التي تتعايش من خلالها الأفكار المختلفة والتوجهات السياسية المختلفة، للارتقاء الدائم بالمجتمع وتحسين ظروف المعيشة فيه، وكذلك الارتقاء بنوعية الثقافة الحاكمة لعلاقات الأفراد وتفاعلاتهم.
إن الديمقراطية لا تتحقق إلاّ بقدرة الدولة المدنية على تطوير مجال عام يحقق التواصل الاجتماعي بين الجماعات المختلفة والآراء المختلفة. و مجالات فرعية للنقاش والحوار، تبدأ من الصالونات الفكرية وتتدرج عبر الجمعيات الأهلية والمنتديات والمؤتمرات العامة وصولاً إلى النقاشات التي تدور في أروقة النقابات المهنية وجماعات الضغط والحركات الاجتماعية والأحزاب السياسية. ويجب الحفاظ على استقلال هذه المجالات بحيث تبقى قادرة على تبادل الأفكار على نحو موضوعي ومحايد.
هذه المجالات هي التي تلهم المجتمع الأساليب القويمة في التفكير والتدبر العام والتواصل الجمعي. إنها تحوّل المناقشات المتفرقة إلى مناقشات تصبّ في هدف عام، وتتم وفق قواعد وأصول عقلية بحيث لا تتحول إلى فوضى، طالما أنها يقوم على العقل والبصيرة والتدبر والقدرة على التفاوض وتقديم الحلول والمرونة في الاستجابة لأفكار الأطراف الأخرى.
5- دولة الحياد(*): إن الدولة المدنية هي الدولة التي لا يتبنى دستورها أيديولوجيا لها، من جهة، ومن الجهة المقابلة، يحظر عليها الحدّ من حرية ممارسة الناس اعتناق أية إيديولوجيا أو شعائر أيما دين، كي تبقى حيادية حيال وكافة مكونات المجتمع وخاصة حيال الأديان، ففي الديانات مذاهب وآراء واجتهادات ومعتقدات واختلافات وإشكاليات. و هي دولة المؤسسات التي تقوم على الفصل بين الدين والسياسة.
يؤسس للدولة المدنية الديمقراطية دستور يكرس مفهوم السيادة للشعب، ويؤكد على حيادية الدولة، وعلى التعددية السياسية والتداول السلمي للسلطة، ويحقق الموازنة والمراقبة بين سلطات الحكم درءاً للاستبداد بفصل حقيقي بينها، ويرسخ مفهوم المواطنة والمساواة والحقوق غير القابلة للنزع كحقوق سابقة وثابتة عبر حق التمتع بحماية متساوية أمام القانون.
دستور يكون حاكماً للحياة الوطنية ومستوعباً تعددية ثرَّة من مختلف الجماعات الإثنية والدينية والمذهبية والأيديولوجية والسياسية، وضامناً لحريتها ولحقوقها جماعات وأفراداً وللجنسين، ومرسخاً لدور جمعيات المجتمع المدني في الدولة
والمجتمع.
وبذلك تكون دولة تجسد وتلخص وعي الشعب وتاريخه الثقافي والاجتماعي والسياسي، وتحفظ الحقوق الجامعة للمبادئ والقيم، وترعى مفهوم المواطنة السليم، و بحكم كيانها التاريخي بمؤسساتها وتنظيماتها تعطي الشرعية للسلطة المتغيرة والعابرة.

وخلاصة القول: إن أبرز مهام الدولة المدنية الديمقراطية هو المحافظة على كل أعضاء المجتمع بغض النظر عن القومية والدين والجنس والفكر والثروة والتراتبية الاجتماعية والاقتصادية، وهي تضمن حقوق وحريات جميع المواطنين باعتبارها روح مواطنة تقوم على قاعدة الديمقراطية وهي المساواة في الحقوق والواجبات، ويكون ولاء المواطن لها ويكون حريصاً على طاعة قوانينها.