كــــــلــــمة و رؤيــــــــا

"الميزان".. رؤى منهجية في شعر الزجل

أُبي حسن- فينكس

مجدداً، لا تأتي أهمية الشاعر شفيق ديب من كونه بات حجر أساس في خارطة الزجل السوري المعاصر فقط، بل من كونه صاحب مشروع و رؤية منهجية في الحقل الزجلي.

يتجلى مشروع الشاعر ديب من خلال كتابه "الميزان" الصادر مؤخراً بطبعة جديدة و معدلة و أنيقة.. و قبل الاسهاب برؤية ديب المنهجية و بعض ما انطوى عليه "ميزان"ـه، أفيد أني على الصعيد الشخصي لم يسبق أن قرأت كتاباً ينظّر في الزجل و يبحر فيه متحدثاً عنه و عن تاريخه و ألوانه و أنواعه و البحور التي يتكئ عليها.. الخ، لكن أفادني مؤخراً الناقد و المترجم الكبير الشاعر د. نوفل نيّوف إن للشاعر و الناقد الكبير مارون عبود كتاباً في هذا المضمار، و يعود عبود بالزجل إلى السريانية..

و بالعودة إلى "الميزان" الذي بين يدينا، نجد أن ديب يخوض معركته النقدية و التنظيرية و هو مجهّز بكامل عتاده الشعري وعدته الثقافية... و يقول في بداية كتابه: "عندما أصدرت بحث الميزان الوارد في نهاية الكتاب الذي حمل اسمه، كان الوسط الزجلي الجديد بحاجة ماسة لبعض التنظير و رسم القواعد و إيضاح الصواب من الخطأ، و بناء على هذا الواجب قمت بتوجيه ذلك البحث للأوساط الزجلية فقط و اليافعين من المريدين"، و القارئ لهذا الكتاب سيلمس الجهد الكبير الذي بذله المؤلّف خدمة للأجيال الزجلية الصاعدة.

و ليس سرّاً القول إن الشاعر شفيق ديب قدّم للحركة الزجلية العربية إضافات قيمة لم يسبقه إليها أحد، فمثلاً الكلمة العامية لا تحتمل الحركة في ثلاثة أحرف عبر الزجل، لكنه استطاع هو كسر هذه القاعدة، و هو في "الميزان" يعتقد "إن كان أكثر ما يكرّم الكلمة الفصحى هو ثبات الحركات على الحروف، فإن أكثر ما يلوّن الكلمة العامية هو تبدّل مواضع السكون ضمن ما يرتئيه لافظها، و تستحسنه لهجته و يستسيغه لسانه...". و للاضاءة أكثر على هذا الجانب أذكر أنه قال لي في حوار مطوّل معه (نُشر في فينكس)، بما يتعلق بحركة الثلاثة أحرف "أعتقد أنك بهذا التوصيف تقصد (عروض) و (ضرب) بحر البسيط، ولكن هذا الاجتهاد الوزني -وغيره- ما زال قيد التطوير، و قد تعطي هذه "التعديلات أفقاً جديداً و روحيّة مختلفة، و إن اختلفت مع قانون البحر الأصلي في الشعر الفصيح.

و في سياق الحركة و السكون، يؤكّد ديب في كتابه في معرض حديثه عن الأوزان المعروفة: "لا يمكن تطبيق القاعدة الوزنية من الشعر الفصيح على الكلمة العاميّة بشكل كامل و دائم، بل تحتاج تلك القاعدة إلى القليل من التطويع و الليونة لكي تتطابق مع الشعر العاميّ و مع كلمتنا العاميّة اليوميّة، و أساس هذا التطويع هو تحوّل السكون إلى حركة و تحوّل الحركة إلى سكون..."، طبعاً و يعرض الكثير من الأمثلة التي لا يتسع المقام لذكرها هنا.

و في غير مكان يرى الشاعر أن هناك من يتعامل مع وزن الشعر العامي على أنّه حزام مطاطي يضغط كل ما يحتويه من كلمات و يقوّمها تلقائياً، و على هذا الأساس ترى النّظم القديم للزجّالين المؤسسين (1950 و ما قبل) -و الكلام لديب- يحتوي على الكثير من التذييل و الكثير من الكلمات الفضفاضة التي تحتاج إلى الضغط اللفظي كي يستقيم القياس العروضي، و هو و إن كان يرى إن الفحول من أولئك الزجّالين كانوا يدركون ما يفعلونه في الحقبة المقصودة، إلّا أنّه كان من المفيد أكثر لو ضرب بضعة أمثلة في هذا الجانب.

في فقرة تحمل اسم "عيارات الوزن" يؤكد ديب على أن يدرك ناقد الشعر العاميّ أو المستمع له (عيارات) الوزن المختلفة بين مدرسة و أخرى، فبرأيه أن عيارات الزجل اللبناني تختلف عن عيارات الزجل الفلسطيني، و عيارات الزجل في ريف دمشق تختلف عن عيارات النظم في الساحل السوري.

و تحت فقرة بعنوان "الرّجز (المعنّى)" يقول ديب: "طالما شكّل لون المعنّى المنظوم على بحر الرّجز الفقرة الأساسية في عمود الحفل الزجلي، فجولة المعنّى هي جولة إبراز الحجّة و البديهة و الردّ الفوري و تعددت أطوال (ردّة المعنّى) و اختلفت باختلاف الحقبة".

و عند وقوفه عند لون "القرّادي" يؤكد أنّه "اللون الأسهل الأصعب، اللون الذي يضجّ بالحياة و بالألوان البسيطة، و في الآن نفسه قد يكون مقتلاً لمن يستسهله"، و هو يشدد على ضرورة التمييز بين القرّادي الزجلي الذي يختلف عن أنواع قرّادي مقيتة سُميت زوراً و استسهالاً بهذا الاسم. إذ هو يؤمن أن لون القرّادي الذي تفرّع عنه (المجزّم و المخمّس مردود) و البحر الضابط له هو بحر المتدارك، هو لون البساطة و الغناء و الإيقاع الحي.

بالرغم من إيمان الشاعر بأن الزجل بأنواعه خاضع لأوزان البحور الشعرية (أو بعضها) فهو يعقد بجواز الخروج عنها قليلاً، و في هذا الصدد يقول: "ان الجواز منفذ قانوني اضطراري و حيلة قاعدية مشرّعة بالفصحى كما في العاميّة نتيجة لمنطق رياضيّ علميّ لا يؤثّر في الناتج الصوتي للملفوظات التي شكّلت الوزن".

ختام القول: إن البحث و الرؤى المنهجية التي قدّمها الشاعر شفيق ديب في "الميزان"، و عبر ستين صفحة من القطع المتوسط، سدّت فراغاً تعاني منه المكتبة العربية في حقل الزجل من جهة النقد و الرصد و الملاحظات بغية ضبط الإيقاع و تقديم الأفضل في هذا الحقل الشعري، و هو بحث من المهم أن يطلع عليه جميع المعنيين بالزجل، خاصة الجيل الصاعد من الشباب.