2021.10.21
أُبي حسن- بيروت- فينكس:
كانت حتى الأمس القريب، الفكرة المتكوّنة لديّ أن الضاحية الجنوبية في بيروت عبارة عن نسخة مصغرة عن "قم" الايرانية، من حيث التشدد و التزمت.. أسوق ذلك، و قد أكون مخطئاً في إحالتي على "قم" كخطأ فكرتي البدائية عن الضاحية..
في الحالات كافة، أسعفتني الظروف مؤخراً بزيارة الضاحية الجنوبية في بيروت، و اختلطت بسكّانها الطيبين، فلم أر فيها ما كانت قد كوّنته و شكلته و افترضته مخيلتي التي سبق أن تغذّت من بروباغندا السفهاء من خصوم الضاحية و أبنائها.
إبّان تجوالي في الضاحية الجنوبية، لم أر مظاهر التشدد و التعصب و اللون الواحد في الملبس؛ صحيح أنّ للمكان هوية اسلامية مذهبية واضحة من حيث أسماء المشافي و دور العبادة، لكنها -إجمالاً- هي هُويّة منفتحة و ليست منغلقة، و هذا ما يترجمه قولاً واحداً فندق "الساحة"؛ فما هي قصة هذا الفندق، و كيف اختصر و اختزل تلك الهوية التي لا تتنكر لأصلها و لا تنغلق عما سواها؟
على الطريق القديم المؤدي إلى مطار رفيق الحريري، تأسس عام 2002 فندق الساحة (قرية لبنان التراثية)، و وفق ما أفادني السيد عبد الكريم مكة (القيّم على "الساحة") أن الفندق هو من ضمن مجموعة شركات خيرية أسسها العلامة التنويري الراحل محمد حسين فضل الله. طابع الفندق تراثي، إذ يذكّر الداخل إليه بكل المفردات الحميمة للقرية كما عاشها أباؤنا و أجدادنا، بدءاً من جدرانه إلى سقفه الخشبي إلى صحون الزينة المعلّقة على جدرانه، ناهيك عن أثاث الغرف بما في ذلك ستائر النوافذ و أغطية الأسرة و شكل الأبواب.. الخ.
سألت السيد عبد الكريم: لماذا اخترتم اسم "الساحة" على الفندق؟ فأجاب بسؤال: ما هو المكان الذي يجتمع فيه أهل القرية بغية السمر و التداول في شؤون حياتهم، و التعبير عن محبتهم و تعاونهم؟
و يكمل مجيباً: إنه الساحة!
ثم يردف: أراد السيد فضل الله أن يقدّم رسالة محبة من القرية الى المدينة من خلال هذا المشروع.
و مصداقاً لقول السيد عبد الكريم، فقد أتى في موقع "الساحة" عبر الأنترنت، حول الفكرة منه، ما يلي: "حين غادر أبو أحمد قريته بإتجاه المدينة بحثاً عن قوت عياله، ظلّ قلبه معلقاً بأذيالها وبقي الحنين يشدّه لإسترجاع أيامها. فلازمه الشوق للسير في دروبها، لكن أحلامه ضاعت حين صدم بقريته مدينة بعد طول الغياب. صمم أبو أحمد على استعادة قريته ورسمها كما كانت، فراح يجمع أدواتها وعناصرها وحجارة بيوتها المهدمة، وضّبها مع أمتعته وحملها معه غازياً بها المدينة ليكون سبّاقاً في قلب الموازين وتواتر الحضارات. لم يأل أبو أحمد جهداً، فبدأ يعيد رسم هيكلية قريته التي كادت تندثر ليجسّدها في الفراغات المعمارية من القناطر إلى الخان والسطحية والدكان والعلية والعرزال... فجاءت قريته متحفاً حيّاً للبيئة التقليدية بعمرانها وأنماط الحياة فيها وأدواتها القديمة المستعملة في كافة الأنشطة اليومية. قرية أبي أحمد هي "الساحة – قرية لبنان التراثية"، القرية النموذجية ذات الطابع القروي الحضاري المجهّزة لكل أفراد الأسرة".
طبعاً، المقصود بأبي أحمد، هو سماحة السيد الراحل محمد حسين فضل الله. و أنت تتجول في ردهات الفندق و أجنحته و مطاعمه و ساحته و كل زاوية فيه، تعيش حقيقة أنّك في متحف قروي بامتياز؛ متخف ينخرط في الحداثة بأدق تفاصيلها دون أن يتخلى عن هويته و جذوره مهما صغرت! هذا ما تجده في طريقة تصميم الفندق التي أتت بقالب معماري قديم و أسلوب حضاري معاصر، و برهان ذلك الخدمات الموجودة فيه، و هي خدمات (يقيناً) أكثر من خمس نجوم..
ثمة أمر لافت للانتباه في ذلك الفندق، الذي بات عملياً ملقى الكثير من مثقفي و صحفيي و نشطاء لبنان عامة و بيروت خاصة (ناهيك أنّه بات مقصد الكثير من المثقفين العرب خلال زبارتهم لبيروت)، ألّا و هو الكوات الموجودة بوفرة في المطعم، إذ ترى على معظم جدران المطعم (و الكفتريات الأخرى الموجودة في "الساحة") كوات صغيرة تحوي عدداً من الكتب الأجنبية و العربية، و من مختلف الأنواع و التيارات الفكرية، و هذه اللفتة رسالة بليغة من إدارة الفندق (و يقيني أنّها توجيه من السيد الراحل الكبير محمد حسين فضل الله) على اقتران الغذاء البدني بالغذاء الفكري، أو لتذكير المرتادين أن غذاء البدن لا يغني عن غذاء الفكر. و على الصعيد الشخصي، لم أر هذه اللفتة السامية في أي فندق سبق أن نزلت به من حملة النجوم الخمسة (ان كان في مصر و سوريا و الاردن.. الخ).
أمر آخر، كان محطّ احترامي و إعجابي (و ربما دهشتي)، يتمثّل في احترام إدارة الفندق لمرتادي "الساحة"، حيث ثمة حريّة في اللباس، فقد كنت أصادف فيه السافرة و حتّى خفيفة الملابس، كما كنتُ أرى المحتشمة و المحجبة، و ما يجمع جميع نزلائه هو الاحترام.. احترام الذات و احترام الآخر..
ثمة ساحة كبيرة في الفندق، و هي عبارة عن مقهى و مطعم صيفي، تُذكرني من حيث اتساعها بالصالة الصيفية لمقهى الكمال في دمشق، و ربما كانت أكثر اتساعاً منها بقليل.. هناك، في "الساحة" قد تجد الإعلامي عمرو ناصف و الكاتب سمير الحسن و المحلل السياسي ميخائيل عوض و الإعلامي عباس ضاهر و غيرهم الكثير من مثقفين لبنانيين و عرب..
في لقائي اليتيم مع الاعلامي عمرو ناصف، في "الساحة" طبعاً، و إبّان دردشتنا، و تطرُقنا لفضائية الميادين، أشار ناصف إلى إحدى الطاولات، قائلاً: "كنت أجلس على هذه الطاولة أنا و غسان بن جدو عندما فاتحني بعزمه افتتاح فضائية، و أنّه سيطلق عليها اسم الميادين".
نعم، استطاعت الساحة أن تحمل رسالة راقية و نبيلة من القرية إلى المدينة دون أن تقوم بترييفها، و هي بهذا جمعت بين محاسن الريف و فضائل المدينة. و يحق للساحة أن تتطلع بجدارة الى مواكبة الحداثة و التطور دون المساس بالأصالة المنبثقة عن التراث العريق للريف اللبناني.
و استطاعت الساحة (قرية لبنان التراثية) أن توصل رسالتها ذات الوجه الحضاري و الجذّاب للتراث، مساهمة في تأكيد الهُويّة و الانتماء، من خلال احياء التراث و توظيفه في فضاءات و فراغات معمارية تتناسب مع تطلعات العصر (كما أتى في رسالتها عبر موقعها الالكتروني) ساعية في ذلك إلى تأمين الحاجة المجتمعية لمؤسسات سياحية وإنسانية وعائلية ضمن خدمات ومنتجات مميزة تحكمها الأمانة والأمن والجودة، و يقيني أنّ "الساحة" نجحت في ايصال رسالتها.