د. غسان القيّم:

كان التنور رمزاً من رموز القرية وخصائها، فقد كان ذو أثر اجتماعي لارتباطه برغيف الخبز و كونه ملتقى، وهذا ما جعل منه شيئاً ذي أبعاد إنسانية، وجعله حلقة ملونة تبدأ بالأرض وتنتهي بالإنسان.

وعلى مدى مئات السنين كان التنور ملتقى نساء القرية صباحاً وعند فترة الغروب، ومحط راحة لهن ومجلس حديث بعد رحلة عمل يومية شاقة تبدأ من شروق الشمس حتى مغيبها.

ولعّل أهم ما يميز خبز التنور طعمه اللذيذ ورائحته القوية النافذة التي (تشق) القلب، التي كانت تنتشر في كل حارة من حارات الضيعة التي كان يوجد فيها التنور، هذه النكهة التي يكمن السر فيها الى الروائح العطرية التي تحتويها أغصان الشجر خاصة الغار والبطم والصنوبر أو الزيتون والسرو، ولم يغفل المثل الشغبي ذلك حيث كانت تردد العامة على ألسنتها مقولة "اقعد إذا عجنت وانهض إذا صحنت".

ولأن المثل مرآة الواقع وخلاصة التجارب والحياة فقد غمز في قناة النساء وقال:

"الله يستر من حكايات النسوان على التنور وعين الماء"

والسؤال هو: لماذا تغيرت رائحة خبز التنور؛ بالرغم من إعادة إحيائه وإنتشاره الواسع في كل القرى وعلى الطرقات العامة، وأصبح مورد رزق لكثير من العائلات؟ هذه الرائحة اليوم لاتتعدى رائحة المكان الموجود فيه التنور؛ حيث كانت رائحته تُشّم على مسافة بعيدة و يسيل لها لعابنا ونشتهي لقمة من رغيفه؛ بالرغم من أنه توضع نفس الأغصان العطرة، لقد تغيّر طعم الرغيف كثيراً لأن طعم الحنطة قد تغيّر أيضاً  باستخدام الأسمدة الكيماوية التي قللت من خصوبة الأرض وفائدة مكونات التربة.

  هناك حيث تبدأ الحكايات ولا تنتهي، كانت نساء القرية سابقاً قلما يجتمعن في الأيام العادية إلا على التنور وعين الماء، لأن كل منهن كانت تتنقل طيلة يومها بالأعمال المختلفة ولا تجد متنفساً لها إلا في هذه الأوقات، إذ تعد أوقات جلب الماء وخبز العجين من أوقات الفراغ واللهو آنذاك، وتفرغ كل واحدة منهن ما في جعبتها من أحاديث علنية أو سرية، فالتنور هو مراح نساء القرية وتسليتها.