رزان عمران- طرطوس- خاص فينكس:

شكلت الأعوام الثلاثة والعشرون الماضية النصف الآخر المختلف من حياة "أليكس زمزم" وزوجته، عندما ولدت ابنتهما الأولى "جوايانا" مصابةً بشلل رباعي. بعد استيعاب الصدمة بمشقة، أدرك الأبوان أن الأقدار شاءت لهما مسارا مغايرا لما يحلم به الآباء، وتعززت هذه القناعة بولادة الابنة الثانية ليليانا "١٦ عاما" مبتلاة بالمرض نفسه. هنا، كف الأبوان عن التفكير بمخاطرة إنجابية ثالثة، وقررا تكريس نفسيهما للبنتين، الروحين، كما وصفهما أليكس في حديثه لـ"فينيكس".

يمتهن الأب، ابن بلدة القطلب في ريف طرطوس، إصلاح الأحذية والحقائب ضمن كشك استأجره في حي الرابية، وأطلق عليه اسم ابنته الكبرى، إضافة إلى عمل مسائي في تحميل البضائع لصالح متجر في بلدة الشيخ سعد. جدول يومي متعب يقضيه منهمكاً في تحصيل ما يسد به حاجات ابنتيه الاستثنائية، فالمرض الذي يضرب الوظائف اللاإرادية يفرض نوعية محددة من الطعام اللين، والعصائر الطازجة، وصولاً إلى المعاناة الأكبر بالنسبة اليه، توفير الكم الكبير من الحفاضات الصحية، فالفتاتان البالغتان تحتاجان ثلاثين كيساً شهرياً، وهو الأمر الوحيد الذي دفع أليكس إلى طرق أبواب الجهات الخيرية، من منظمات وجمعيات ودور عبادة، والعديد من ذوي النفوذ، ليكتشف بعد عدة سنوات أنه أنفق على المواصلات من أجل التواصل مع هذه الجهات أضعاف ما حصّله من مساعدة.

لا يفارق "هاجس الحفاضات" اليومي أليكس في ظل الغلاء المضطرد للسلع، كما لا تفارقه حقيبته الصغيرة التي تكاد تنفجر بمحتوياتها من أوراق ثبوتية وبطاقات إعاقة وتقارير طبية وأرقام هواتف "ذوي الأيادي البيض" من أشخاص أو جمعيات يذكرهم جميعا بالاسم، ويتذكر النزر اليسير الذي استطاع تحصيله من بعضهم، وذرائع بعضهم الآخر في تبرير عدم المساعدة، كالقول بإن الجمعية الفلانية "متخصصة" فقط بحاجات الجرحى وذوي الشهداء، أو القول "اترك رقمك وسنتصل بك"، وذاك وجه الضيف، وصولاً إلى إعلان صريح بالعجز قاله أحد النافذين "لا أستطيع وضعك على لائحة المستفيدين الدائمين شهرياً". يقول أليكس: "لا أطلب أكثر من تأمين حاجة بناتي من هذه المادة، لا أريد سللاً غذائية. المساعدة الوحيدة التي وصلت إليها ويمكنني وصفها بالدائمة بعد سعيي المتواصل هي ما تخصصه لي الكنيسة الإنجيلية، ربما لا تسد حاجتي كاملة، لكنها الأمر الوحيد الذي أركن إليه كل شهر، إضافة إلى خمس دقائق من المعالجة الفيزيائية التي يقوم بها متخصصون من الهلال الأحمر شهرياً لكل فتاة".

يتذكر فجأة مبلغ الـ ٢٢ ألف ليرة الذي تخصصه مديرية الشؤون الاجتماعية دورياً لضحايا الشلل الرباعي، بعد قليل، سيبدو واضحاً لماذا كاد ينسى هذه المساعدة، فالمبلغ يُدفع سنوياً، لا شهرياً، ويشمل ليليانا وجوليانا معاً! وبالتالي يصعب وضعه في خانة" الوارد"، أو حتى البحصة التي تسند جرة.لا يتوفر وصف.

تضم حقيبة المعاناة أيضاً الوصفات الطبية والأدوية الخاصة بأليكس نفسه، إذ جعلته الظروف القاسية يعاني نوبات اضطراب شبيهة بالصرع، ليبدأ صراعا على الجبهات الصيدلانية، مصطدما بالحجج الشائعة ذاتها، الدواء غير متوفر، لكن ربما باستطاعتنا "تدبيره"، ليقفز سعر الدواء المكتوب إلى رقم مختلف تماماً. إنها ضريبة "التدبير". يقول: "دخلت إحدى الصيدليات مرة وسألت عن دوائي"المقطوع"، فبادرت الصيدلانية للاتصال بزميلتها للاستفسار عن الدواء، وإذ وجدته، ارسلتني إلى زميلتها. ركبت سيارة أجرة بثمن لا منطقي لأصل إلى الصيدلية الثانية، لأسمع كلاما جديدا "الدواء غير موجود"، مع تلميح بأن السعر ارتفع إلى ضعف ما أخبروني به قبل قليل! ".

في جانب آخر للمأساة، يكشف أليكس ما اختبره من قسوة أقرب الناس إليه، فبدلاً من أن تجعله معاناته موضع تعاطف وتضامن وإعجاب، ابتعد عنه كثيرون، وضغط عليه بعض أهله ليترك زوجته ويتزوج بأخرى تنجب له أطفالا أصحاء، وعندما رفض تحول الضغط إلى قطيعة نهائية، وساهمت نوباته الاضطرابية في استخفاف الناس به، واستسهالهم وصفه بالـ"المصروع"، وغير ذلك من التصرفات التي توحي، مجدداً، بمدى قلة الوعي الاجتماعي، وبُعد الكثيرين عن أدنى درجاته، رغم ما أفرزته الحرب من ظروف متشابهة طالت الجميع، بل ما أفرزته من عشرات الجهات الخيرية بمخصصات هائلة، توحي بأن لا أحد سيبقى محتاجاً!

ومن ضمن ما ناشد به أليكس، ألا تُنشر المادة الصحفية على "فيس بوك"، فهي تجلب الساخرين أكثر من الراغبين بالمساعدة، على حد قوله، بعد تجربة سابقة مريرة، مشددا على عدم نشر صورتي بنتيه.لا يتوفر وصف.

وكما يغرقك حديث أليكس في الحزن، يغمرك بالسعادة وهو يستعرض على جواله صورة ليليانا في عيد ميلادها الأخير، فتاة حلوة ذات ملامح تشي بالجدية، على عكس جوليانا التي تميل للضحك دائما. "إنهما روحان تملأان عليّ بيتي، ولا يمكنني تصور الحياة دونهما، وإذا قدر لي أو لزوجتي مكروه ما، اتمنى أن أكون من يصاب به، لأن زوجتي هي التي تعينهما في كل شيء، في الأكل والشرب وتغيير الملابس، أمدها الله بقوة غريبة تعينها حتى على حملهما من مكان لآخر".