ماكنة الإخوان وجمال عبد الناصر
جميل عبد النبي
أول كتاب قرأته في حياتي عن جمال عبد الناصر كان باسم: "مجازر الإخوان في سجون ناصر"، كان عمري يومها ستة عشر عاماً، يومها لم أكن إخوانياً، ولم أصبح إخوانياً ولا ليوم واحد في حياتي، لكني كنت متديناً، وكانت فكرة العودة إلى نظام الخلافة الإسلامية تتملكني، كنت أظنها من أركان الدين، وأصوله، فكان من السهل أن تتخلق حالة من العداوة، أو كحد أدنى خصومة بيني وبين أي جهة، لمجرد أن أعرف أنها ترفض فكرة الدولة الإسلامية، وحاكمية الله، وهذا ما قيل لي عن جمال عبد الناصر، وما ظننته حقيقة مطلقة فيما بعد، حينما أتممت قراءة كل حرف تقريباً كتبه سيد قطب، وأنا في بداية العشرينات من عمري.
في الكتاب سابق الذكر كنت أرى في جمال عبد الناصر شيطاناً، قاتلاً، سفاحاً، معادياً لكل ما هو إسلامي، ربما لا يشبهه إلا أبو جهل، حينما كان يعذب مسلمي مكة الأوائل، عمار، وبلال، وسمية، وصهيب.
كرهت عبد الناصر بكل كياني، ولعشرين سنة قادمة- تقريباً- سيظل في نظري مجرماً، معادياً للإسلام والمسلمين.
كانت القصص التي يتضمنها الكتاب كفيلة بخلق حالة من الكراهية تجاه عبد الناصر، غذى هذه الكراهية ما قرأته في كتب سيد قطب، وعديد القصص التي سمعتها عنه، أيضاً من مصادر إخوانية، فغيرها لم يكن محل ثقة في نظري، نتيحة لانتمائها، أو لصدورها عن جهات يمكن تصنيفها هي الأخرى كعدوة للإسلام والمسلمين، كونها تجاهر بعلمانيتها، أو رفضها لفكرة تطبيق الشريعة، والعودة إلى نظام الخلافة الإسلامية.
بصعوبة بدَأَتْ تتفكك هذه الصورة في عقلي، حينما بدأتُ أقارن كل ما قاله الإخوان عن عبد الناصر، وكأنه حقيقة لا شك فيها، بما قرأته عن الأمويبن، والعباسيين، والعثمانيين، عن ذبح الجعد بن درهم تحت المنبر، وتقديمه كقربان لله في عيد الأضحى، عن قصف الكعبة بالمنجانيق، عن مقتلة آل بيت النبي، عن مأدبة طعام تقام على جثث الأموين، عن ذبح الإخوة بخيط من حرير، كي لا ينافسوا السلطان العثماني ملكه، وكل ذلك، وأكثر منه بملايين المرات في زمن الخلافة- كما يسميها الإسلاميون والإخوان- التي يسعون إلى إعادتها، كل ذلك لم يفعله عبد الناصر، ولا واحد في المليون منه، لكنه صار عدواً أولاً للإخوان، بينما يتم تمجيد كل قتلة التاريخ.
ثم تابعت علاقة الإخوان بأنظمة حكم أكثر دكتاتورية، وظلامية، وبدأت تتفتح عيناي على مبالغاتهم، ونسيجهم للروايات، والأكأذيب، منها مثلاً عن حركة الجهاا د التي لم يعد سراً أنني كنت أحد ناشطيها، والتي سأتحدث عنها في حلقة قادمة، أكاذيب، أعرف أنها أكاذيب، تماماً كما أعرف أن ربيَ الله، ثم علاقتهم بالسادات بعد عبد الناصر، وإن كان الرجل قد تحول إلى مطبق للشريعة كسبب للتقارب معه!
في المحصلة صارت الصورة أمامي كالتالي:
لا يصادق الإخوان ويعادون وفقاً لمعايير الدين، والشريعة، ولا حتى القرب والبعد من فلسطين التي يتشدقون بها، إنما وفق علاقة النظام بالإخوان، فمصلحة الإخوان كجماعة، وأمّة من دون الناس هي المعيار الأوحد للتقييم.
حاولت أن أقرأ عبد الناصر من خلال زوايا أخرى، هيكل، وحتى أنيس منصور في كتابه جمال عبد الناصر المفتري، والمفترى عليه، وروايات الناصريين، والقوميين، وحتى ما يقوله الإسرائيليون، وجدت أن للرجل صورة مغايرة تماماً عما زرعته الرواية الإخوانية في عقلي، وجدته شاباً عاصر حالة الضعف العربية، وانهيارها أمام دويلة ناشئة، ومحاولته توحيد الجهود العربية، وجدته في توزيع الأراضي على الفلاحين، وفي تأميم قناة السويس، وفي السد العالي، وفي عداء إسرائيل له.
لا تبرر أي صورة جديدة ناشئة لعبد الناصر دكتاتوريته، لكن الحقيقة أنه لم يكن وحده، كان انعكاساً لحالة الوعي العربي في المنطقة، فالديمقراطية لم تكن محل تركيز عربي، وليست من أولوياته، وهو لم يكن بدعاً من الرسل، لكن حتى ما قيل عن دكتاتوريته، وجدت أن الصورة الحقيقية لا تشبه أبداً ما قاله الإخوان، هو حاكم غير منتخب، حصل على شرعيته بثورة 23 يوليو، وبمواقفه من الاستعمار البريطاني، وإسراا ئيل، وبقبضته على الجيش، مثله مثل كل الحكام الذين صادق الإخوان بعضهم، بل صادقوا إمارات، وممالك وراثية، يرث الأمير او الملك البلاد والعباد لمجرد أنه كان ابن أبيه، حتى لو أقصاه كمتغلب، أو حتى قتله!
ثم أبقتني الحياة لأعاصر حكماً إخوانياً وأعيش تحت سطوته، شاهدت القسوة وعاصرتها، والجرأة على الدم، وتكذيب مشاهداتي الشخصية، حكمني خلال هذه الفترة غير منتخبين، لم أخترهم، إنما اختارهم الحزب، وصاروا متحكمين تماماً في مصيري، وشاهدت صوراً وكأنها إعادة تمثيل لما قرأته في كتاب مجازر الإخوان في سجون ناصر، حاولت الجهة التي تشربت فكرة الضحية، أن ترتدي ثوب الجلاد، وتمارس نفس ما قالت أنه فعله بها، وكأنها تنتقم لشيء ما في داخلها.
لقد استطاعت ماكنة الإخوان أن تشيطن عبد الناصر في وعي الإسلاميين على الأقل، ولولا حجم الرجل، وقوة حضوره، لاستطاعوا شيطنته على مستوى الأمة، لكن تجاربهم الفاشلة، والقاسية في الحكم، دفعت الناس تجاه إعادة فحص كل ما قالوه في السابق.
لم أكتب كل ما يجب أن يُكتب، لكن مقام الفيس لا يطيق ما هو أكثر من ذلك، فلم أذكر مثلاً قصصهم عن مياه المجاري التي طفت على قبره! ولا عن أصله، وأصل امه، ولا عن رصيده البنكي، الذي بالمناسبة يعرف كذب روايتهم كل المصريون.
ماكنة خطيرة ممتدة، وأدواتها متنوعة، مساجد، صحف، قنوات فضائية، دول، ذباب إلكتروني.
مساكين نحن غير المنظمين أمام قدراتهم المنظمة، فليس سراً أن القلة المنظمة تهزم الكثرة غير المنظمة، ولقد استطاع الإخوان هزيمتنا، حتى وهم خارج منظومة الحكم، ومحاربون من خلالها، هزموا روايتنا، وبساطة تديننا، أفكارنا، قراءتنا للتاريخ.
أعاننا الله، وحمى الله عقولنا.