أنا.. ووليد معماري (حكاية عمر)
صبري عيسى
تعود صداقتي مع وليد معماري وأخيه مفيد الى منتصف خمسينات القرن الماضي، عندما جاؤوا الى دير الزور للالتحاق بوالدهم الذي وصل الى المدينة قبلهم بأشهر لتأسيس معمل للبلاط لصالح السيد الياس ملوح، وسكنوا في مبنى ضيق في المعمل نفسه حتى قام المرحوم "أبو وليد" باستئجار منزل خاص لولديه قريباً من بيتنا في الجبيلة، ووفر هذا لنا فرص اللقاء اليومي والدراسة مع بعض بعد أن أصبحنا طلابا في ثانوية الفرات، وجمعتنا صداقة عمر ومودة تخللها موقف حزين عندما تعرض وليد لاعتقال أجهزة الأمن له عام 1961 وهو في هذه السن الصغيرة، وترك ذلك آثاراً على جسده حتى تعافى، لكنها تركت بصمة لاحقة على بعض ابداعه.
في ثانوية الفرات كنا شلة من محبي القراءة والأدب، وأسسنا معاً مع مجموعة رائعة من زملاء شعبة الأدبي في ذلك الوقت (رابطة الوعي العربي) وكان نجم نشاطاتها بامتياز وليد الواعد بالعطاء، وجمعتنا هواية القراءة والبحث عن الجديد في دور النشر والمجلات الثقافية الشهرية التي كانت تصل الى دير الزور، في الوقت الذي كان فيه "وليد" ينشر قصصه القصيرة في صحف ومجلات العاصمة، وأخيرا حصلنا على الثانوية وجئنا للدراسة في دمشق، وكانت معاناتنا متشابهة، فلم نوفّق في البحث عن عمل لتمويل اقامتنا بدمشق، وعشنا في تنقل وعدم استقرار بين دمشق ودير الزور، وعمل وليد في أعمال مؤقتة وغير مستقرة، وفي نهاية عام 67 شارك صديقه الرائع "وليد الحكيم" في افتتاح مكتبة للقرطاسية في القصور، وفشل المشروع لأن الوليدين لم يملكا "أخلاق" التجار وأحبا زبائنهما الأطفال، فكانا يمنحانهما أسعارا مخفضة مما أدى الى افلاس المكتبة واغلاقها!
عاد وليد الى دير الزور وعمل مساعدا لولده في معمل البلاط، وعمل معلما وكيلا في ريف دير الزور، وبعدها ذهب لتأدية الخدمة الإلزامية، وكان نصيبه أن وقعت حرب تشرين، وبعد انتهاء الحرب تم تعيين كل حملة الاجازات الذين دخلوا الحرب في وزارات الدولة، وكان نصيب وليد التعيين في وزارة العمل والشؤون الاجتماعية في مركز نوى القريب من درعا!
حكاية جريدة تشرين
كنت أنا من المؤسسين لجريدة تشرين التي صدرت بأربع صفحات بتاريخ 6 تشرين عام 1975، وبعد فترة قصيرة تم تعيين المرحوم الأستاذ جلال فاروق الشريف مديرا عاما ورئيسا لتحرير الجريدة، وتحولت الجريدة الى ورشة عمل لإعادة أصدارها بعدد صفحات أكبر وأصبح مكتب الأستاذ جلال في معهد الاعداد الإعلامي مثل خلية النحل للاعداد لولادة الجريدة بحلة جديدة، و12 صفحة لأول مرة في تاريخ الصحافة السورية بنفس جديد ورؤية جديدة حملت طموح ورؤية الأستاذ جلال الرائد في تأسيس صحيفتي البعث والثورة سابقا.
كان وليد يعمل في وزارة الشؤون البلدية والقروية في مركز قرية نوى البعيدة عن دمشق مما يتطلب سفره يوميا لمقر عمله ذهابا وإيابا، وفي عصر أحد الأيام التقيت وليد بالمصادفة في بوابة الصالحية، وبعد تبادل الأشواق والسؤال عن بعض، ذكر لي وليد معاناته اليومية في الوصول الى عمله وأنه يصرف معظم راتبه على المواصلات، وإنه يبحث عن عمل مسائي، عندها اقترحت عليه العمل معنا في الإخراج بصحيفة تشرين، وتحمس وليد، وقلت له تعال مساء اليوم الى المقر المؤقت للجريدة في مبنى مطابع الثورة بدوار كفرسوسة، وفعلا جاء وليد وبدأ وبشكل مكثف وعملي في تنفيذ الصفحات الداخلية، وبعد أيام قام وليد بتنفيذ صفحة عرضتها على الأستاذ جلال الذي أعجب بعمله، وطلبت منه الموافقة على تعيين وليد مخرجا في الجريدة، ووافق وطلبت منه تحديد الراتب وقال: أترك ذلك لك، وذكرت له رقم 400 ليرة ووافق، وقلت له: "تبقى ملاحظة اذكرها لك، وليد ملتزم بالحزب الشيوعي وأنا أعلم حساسية الوضع بالنسبة لعمل من هو غير بعثي في الاعلام"، ضحك وقال: "أليس الشيوعيين مثلنا يحتاجون الى عمل ليعيشوا؟". ذكرت هذه الحادثة ليعلم الجميع كم كانت خسارة الجريدة بإقالة الأستاذ جلال بعد اشهر من صدور الجدريدة بـ 12 صفحة وحلة جديدة، قمت أنا بتصميم الماكيت وتبويب الجريدة التي صدرت في 17 نيسان ولم تبق منها نسخة واحدة في السوق خلال ساعتين.
شكّل صدور مجموعة وليد (أحزان صغيرة) عام 1971 شهادة ميلاد له، احتفل بها الأصدقاء القريبون من وليد، وتتالت اصدارت وليد التي كرّسته أديبا دخل من بوابة الابداع، وبدأ الكتابة في جريدة تشرين وزاوية (قوس قزح)، وتابعت كل ماكتب عن وليد بعد ساعات من اعلان وفاته، وتراوحت بين المديح والاشادة به، وبين الهجوم عليه بشكل غير لائق!
هنا سأتوقف عند قضية يتم الحديث عنها بشكل بعيد عن المنطق، وهي مشكلة كتّاب الزوايا المحلية والناقدة في الصحافة السورية، وهي ان القراء يحمّلون كتّاب الزوايا الناقدة التي تتحدث عن معاناة الناس وهمومهم مسؤولية عدم استجابة الحكومات المتعاقبة لما ينشر في الصحف الرسمية، وكأن كاتب الزاوية يملك شجاعة عنتر وسيقوم بعد نشر الزاوية بامتشاق سيفه وقطع دابر الفساد بضربة واحدة، وسواء كانت الزاوية لوليد معماري أو - مع حفظ الألقاب - لحسن م يوسف او نبيل صالح، أو غيرهم، تبقى كلاماً على الورق لايعني أي مواطن إذا لم تستجب الحكومات المتعاقبة لهموم الناس، وهذا يجيب على السؤال الأزلي، لماذا فقدت الصحافة السورية بعد 8 آذار 1963 حريتها؟ والجميع يعرف حكاية تأميم الصحافة الحرة ومصادرة مطابع الصحف بعد هذا التاريخ!
أعود لهبوط مستوى الزوايا في صحافتنا الرسمية، وأقول - وهذا ليس للتبرير- بل لتوصيف أحوال كتّاب الزوايا، في البداية، أقول: لايوجد صحافي واحد في العالم يستطيع ان يحافظ على مستوى واحد من الأداء الحرفي المتميز الذي يرضي القرّاء ويتجاوب مع أمزجتهم المتغيرة كل يوم، وهناك مشكلة تتعلق بظروف الصحفي السوري وبحثه الدائب عن زيادة دخله للصرف على عائلته من خلال حجم الاستكتاب الذي يرفع رقم مكافأته في نهاية الشهر، ولم يسبق لكاتب أن اعتذرعن الكتابة في أي يوم لعدم وجود فكرة مًقنعة لديه، ويلجأ الى الكم الذي يعقبه السقوط بنظر قرّاشه!
توضيح للضرورة:
أنا على قطيعة مع المرحوم وليد منذ ربع قرن بسبب خلافات بالرأي لم نستطع تجاوزها، ولم نلتق خلالها إلّا مرة واحدة عندما ذهبت قبل سنوات الى ديرعطية للعزاء بوفاة والدة وليد، وأنا أتقدّم من عائلة وليد بخالص العزاء، وأخص بالذكرأخيه المثقف الصلب الأستاذ مفيد معماري، وإلى العزيزة ام خالد وابنه خالد وابنتيه بثينة ولبنى، ومادفعني للكتابة عن المرحوم وليد هو الوفاء للقمة الخبز التي أكلناها معا في بداية العمر ومنتصفه.
• هذه الصورة تعود الى نهاية عقد الخمسينات من القرن الماضي بعد مشوار على الجسر المعلق عندما كنا في المرحلة الثانوية، ويبدو وليد على يسار الصورة وأنا على يمينها وفي المنتصف زميلنا الذي كنا نحبه عبد الرحمن فاكوش.
ملاحظة من فينكس: تاريخ كتابة هذه المادة النفيسة 22 ديسمبر 2021