من جعبة الذاكرة.. عن خطاب حافظ الأسد الذي لم يُسجل

معن حيدر

 في مطلع شهر آذار 2000 جرى آخر استفتاء رئاسي لحافظ الأسد، وكان يُسمّى (تجديد البيعة).
وكما هي العادة في كل استفتاء، كان يسبقه ويرافقه حالة احتفالية تعمّ المحافظات وتستمرّ أسبوعا كاملا، وتنتهي في العاصمة دمشق بحفل فنيّ مركزيّ يُقام في قصر الفيحاء.
ثم تظهر النتائج ويفوز الرئيس فيها بنسبة 99.99% (في تلك السنة انخفضت النسبة إلى أقل من 99% بقليل)، وبعدها يطلّ الرئيس من شاشة التلفزيون ليشكر المواطنين على محبتهم ووفائهم، في حديث مسجّل قصير.
في التلفزيون يتمّ تبليغنا مسبقا لتسجيل الكلمة.
بالعادة يتمّ التبليغ قبل يوم أو يومين من موعد التسجيل، وأحيانا قبل شهر، مثلمل حصل في زيارة الرئيس الأمريكي كلينتون إلى سوريا، أو تسجيل لقاء مع محطة الـ CNN الأمريكية إثر دخول الجيش السوري إلى لبنان وطرد ميشال عون.
يتمّ التسجيل بثلاث كاميرات محمولة ومعها ما يلزم من تجهيزات الصوت والإضاءة والتسجيل المرئي، وبأقل كادر ممكن.
نقوم باختيار مكان التصوير ضمن القصر، وغالبا ما يكون في قصر الشعب وأحيانا قصر تشرين، نركّب الكاميرات والإضاءة في مكان التصوير ونمدّ الكابلات إلى التجهيزات التي نضعها في أقرب مكان خارجه.
نجرّب كل شيء: الإضاءة والصوت والكاميرات والتسجيل. ثم نطفيء التجهيزات ونتركهاء ونغادر بانتظار إبلاغنا أنْ نعود، وغالبا ما يكون قبل عدة ساعات من موعد التسجيل.
في تلك السنة، أُبلغنا أن نعود للقصر، وفور وصولنا شغّلنا التجهيزات وأعدنا اختبارها وتجريبها، وجلسنا ننتظر.
وصل حافظ الأسد ومعه جبران كورية مدير المكتب الصحفي والدكتور رياض نعسان آغا المستشار السياسي، يسبقهم مدير المراسم الذي أوصله إلى مكان التصوير، وكان طاولة مكتب أمام جدار عليه مجسّم للشعار.
أجلسه على الطاولة وناوله النظّارة ووضع أمامه الأوراق التي سيقرأ منها نص الكلمة.
دخلنا وقام مهندس الصوت بتركيب المكرفون على قبة الجاكيت وطلب منه تجريب صوته، وكان فني الصوت يتابع في الخارج مع التجهيزات.
وأثناء ذلك أجرى مهندس الإضاءة الرتوش الأخير، متحاشيا أن تكون الإضاءة مباشرة على وجهه
وقام المصورون بضبط كاميراتهم ولقطاتهم، وبقوا خلف كاميراتهم بينما انسحبنا إلى الخارج حيث التجهيزات.
وابتدأ التسجيل، كنت أتابعه في الخارج عبر المونيتور والهيدفون فلاحظتُ كما لاحظ الجميع معي أنّ الصوت واهن وأنّه بين الكلمة والأخرى يوجد صوت يشبه أنين خافت مستمر (إيييييييي).
أدركتُ أنّه لا يمكن إذاعة الكلمة بهذا الشكل، فدخلتُ وأشرت بيدي لمدير المراسم فعرف ما أريد
اقترب منه وهمس في أذنه فتوقّف عن القراءة.
ارتاح قليلا ثم عاود القراءة، ونفس النتيجة، ثم جرّبنا مرة ثانية..
أعدنا المحاولة أكثر من أربع أو خمس أو ربما ستّ مرات على مدى يومين قبل الظهر وبعد الظهر، وفي كل مرة يُطلب منا أن نغادر ثم أنْ نعود.
اقترحتُ عليهم استخدام جهاز التلقين الذي يستخدمه المذيعون في التلفزيون، وبعد أن ركّبناه وجربّناه، جربّه مدير المراسم فقرّر عدم استخدامه.
وفي إحدى المرّات تم تغيير نصّ الكلمة، وكنت قد انتبهتُ أنّ الكلمة الأولى هي بصياغة الدكتور رياض، وأنّ الكلمة الثانية هي بصياغة جبران كورية المعتادة، الأولى أدبية/ سياسية بامتياز، والثانية سياسية/ أدبية بامتياز.
وكان في كل مرّة يعتذر لأنه (لبّكنا).
وفي إحدى المرّات وبعد أن طلبتُ إيقاف التصوير، قام من خلف المكتب وجاء إلى أمامه، فالتفّ حوله الموجودون، وكنت بينهم، استند إلى طرف المكتب وأخذ يحدّثنا أحاديث شتى:
-منها عن (رفيقنا مصطفى) الذي كان قد هاجم زعيم منظّمة التحرير عرفات في كلمة له أمام إحدى القطعات العسكريّة في إحدى المناسبات، ما أدّى إلى زيادة توتّر العلاقة مع المنظمة، المتوتّرة أصلا منذ إخراجها من لبنان.
-وعن (رفيقنا عبد الحليم)، ولا أتذكر بالضبط ما قاله، وأعتقد أنه شيء يخص الهجوم على مبنى السفارة الأمركية في دمشق أثناء مظاهرة تنديد، وتسلّق مجموعة من الشباب على جدرانها محاولين اختراقها.
-وعن استيائه من تصرّف وزير التموين الأسبق (ح . س) الذي وصله إشعار أنّ مخزون القمح لا يكفي إلا لأسبوعين، ودون أن يستشير أحد، اتصل فورا بزميله الأردني طالبا شحنة إسعافية من القمح ريثما تصل الشحنة المتعاقد عليها بعد حوالي شهر.
لبّتْ الأردن الطلب فورا، وتوجّهت الشاحنات الأردنيّة محمّلة بالقمح إلى الحدود السورية، حيث تفاجأت الجمارك السوريّة بها، وتبين أنّ رئيس الوزراء لا علم له بالموضوع، فاتصل بالقصر وتبيّن أنه لا علم له أيضا.
هنا شعر الجميع أنّه لا يوجد لدى حافظ الأسد أيّ صفاء ذهني أو تركيز، وهو ما أدّى إلى فشل كلّ محاولات التسجيل، وقد تجمّع لدينا عشرات الأشرطة المسجّلة التي طلب منا أنْ نتلفها فورا.
وبناء عليه تقرّر أن تذاع الكلمة مقروءة من قِبل مذيع الأخبار، فقرأها مهران يوسف
كما كان قد قرأ قبلها خبر القَسَم في مجلس الشعب بصوته، وكذلك خطاب القسم، للسبب نفسه.