قبلة على الجبين

صفوان زين- فينكس

 في ١٧آب ١٩٤٣ انتخُب شكري القوتلي كأول رئيس للجمهورية السورية المستقلة (لم يتحقق الاستقلال التام حتى ١٧نيسان ١٩٤٦).
قام الرئيس الجديد بأول زيارة له الى الساحل السوري في شهر آذار من العام ١٩٤٤. زار مدينة اللاذقية بين ١٩و ٢٢ آذار. وُضع له برنامج استقبال حافل شمل زيارة ثلاث من المدارس الرئيسية، بينها مدرسة "الفرير" الفرنسية. كنت طالباً في المدرسة المذكورة في الصف الأول الابتدائي. وقع عليّ الاختيار كي أقدم لفخامة الرئيس باقة ورد كبيرة في صالة المسرح الرئيسية التابعة للمدرسة، حيث تقرر ان يقام حفل استقبال كبير.
قبل وصول الرئيس بدقائق صعدوا بي فوق خشبة المسرح ونصبوني كتمثال صغير في وسطها تماماً، وحمّلوني فوق ذراعين غضتين نحيلتين لطفلٍ في السابعة باقةٓ ورد تفوقه وزناً و حجماً بانتظار وصول الرئيس وصحبه. كنت مضطرباً جداً من رهبة الموقف، انما كنت سعيداً جداً في داخلي.
تأخر وصول الضيف الكبير بعض الشيء. بدأتُ أنوء تحت ثقل حمولتي. اقترب مني جاك نصري الطالب في المرحلة الثانوية محاولاً التخفيف عني. سألته من سيتولى انزالي عن المسرح لتقديم باقة الزهر؟ أجابني وهو يصطنع الجد: "ستأتي فراشة كبيرة وتطير بك مع باقة الزهر الى حيث يقف الرئيس".
أخيراً وصل الرئيس يحيط به كبار رجال الدولة. ضجت الصالة بالتصفيق والهتاف بدأت ركبتاي تصطكان، وتولاني رعب شديد من أن لا تقوى يداي على الاستمرار
في الحمل.
عُزف النشيد السوري. وجدته أطول من سيمفونية كاملة. ما ان انتهى عزف النشيد حتى عمد جاك نصري بحركة سريعة جداً وذكية جداًومن خارج السيناريو المرسوم، إلى أداء دور الفراشة التي حدثني عنها. توجّه الى المسرح مباشرةً دون ان يصعد اليه، أومأ لي كي أسير بضع خطوات الى حافة المسرح الأمامية، التقطني من فوقها وحملني مع باقة الورد على أجنحة الفراش وطار بي بلمح البصر الى فخامة الرئيس حيث كان بانتظارنا وقوفاً.
قوبلت لفتة جاك بالإعجاب من الجميع (أوجه التحية الى روحه حيث ترقد، لقد كان همه الأول التخفيف عن كاهل طفل صغير ولو على حساب شيءٍ من البروتوكول).
قدمت باقة الورد الى الرئيس، تناولها منه أحد المرافقين، انحنى فخامته انحناءة كاملة وطبع قبلة حارة على جبيني (للأسف لم يُوٓثق هذا المشهد ولا سواه بأية صور فوتوغرافية انما هو منقوش في ذاكرتي كأنما يجري الآن أمامي). ُ
قدر لتلك القبلة أن تضعني في موضع الأشد تعلقاً بشكري بيك طيلة سنوات طفولتي.
عندما جرت حوادث الاصطدام الشهيرة مع الفرنسيين في شهر تموز من العام ١٩٤٥ كان أول ما فعلتُه عندما أرغٓمٓنا الوالد ان نتكوم في المطبخ الآمن نسبياً، هو احتضاني لصورة الرئيس طيلة ساعات من لعلعة الرصاص في الخارج.
دار الزمان دورته وأُطيحٓ بشكري القوتلي وعهده في الانقلاب العسكري الأول بقيادة حسني الزعيم في ٣٠ آذار ١٩٤٩. كنت أصبحتُ في الثانية عشرة من عمري، انما يبدو ان مفعول القبلة لم يكن قد تلاشى تماماً، اذ ان الانقلاب أصابني بنوع من الصدمة.
سألت والأدي عن سبب الانقلاب، أجابني: "صاحبك متهم من الانقلابيين بالخيانة والفساد"، ماذا فعل؟ بدت الحيرة على والدي، لم يعثر إلا على اجابة واحدة قالها ضاحكاً: "تلك القبلة على جبينك".
دار الزمان مرة ثانية دورته وعاد المتهم "بالخيانة والفساد" من المنفى رئيساً ًللجمهورية السورية للمرة الثانية في ١٨آب ١٩٥٥، الى ان انتهى "مواطن عربي ول "مع قيام الجمهورية العربية المتحدة في ٢٢شباط ١٩٥٨.
يُروى بأن الرئيس القوتلي توجه الى الرئيس عبدالناصر، عقب توقيعهما لاتفاقية الوحدة بين البلدين، بالقول: "أعانك الله يا سيادة الرئيس، لقد سلمتك بلداً كل مواطن فيه يعتبر نفسه زعيماً". لم يكن هذا التوصيف بعيداً جداً عن الواقع.
في ذلك الوقت كنت أصبحت طالباً جامعياً معتداً بشبابه. كان مفعول قبلة القوتلي على جبيني قد تلاشى تماماً لصالح قبلات من نوع مختلف بالمرة، لم تكن أي منها بطبيعة الحال على الجبين.