ذكريات مدرسية / عدو الله
كتب صفوان زين
بعد سقوط الشيشكلي في شباط من العام ١٩٥٤ فُتح باب الصراع الحزبي على مصراعيه بين الطلاب البعثيين والإخوان المسلمين في ثانوية البنين (جول جمال) في اللاذقية. لطالما شهدت باحات هذه المدرسة وأروقتها معارك حامية بين الطرفين استعملت فيها الصفعات و اللكمات على نطاق واسع.
خالد صوفي مدرس التاريخ الشاب المحسوب على البعث، كان قد فرغ لتوه من إلقاء درسه ضمن المنهاج المقرر لطلاب احد صفوف المرحلة الإعدادية، عندما فاجأه طالب بسؤال من خارج المنهاج تناول فيه ظاهرة وردت في القرآن الكريم في سورة النمل، هي ظاهرة النبي سليمان ومخاطبته للنمل والطير.
انصب سؤال الطالب على معرفة رأي المدرس بهذه الظاهرة. لم يكن واضحاً القصد من طرح السؤال، هل كان القصد بريئا ام كانت الغاية احراج المدرس ودفعه الى اجابة تُسَجَل عليه وتُستثمٓر في الصراع المحتدم، للأسف فإن ما حصل من تداعيات رجح الاحتمال الثاني. كان بإمكان الأستاذ الصوفي ان يتهرب من الإجابة ايّا كان قصد السائل، غير انه لم يكن من النوع الذي يتهرب. أجاب بما يشير الى "رمزية" ما ورد في القرآن حول هذه المسألة. كلمة "رمزية" سرت بين الطلاب سريان النار في الهشيم بعد ان حُورت و حُملت من المعاني بما لا يتفق مع ما قصد اليه المدرس ٠لثلاثة ايام متتالية جابت تظاهرات صاخبة شوارع المدينة مرددةًً "لا اله إلا الله خالد صوفي عدو الله".
لم تكن المظاهرات مقتصرة على الطلاب بل شملت أفراداً من شرائح شعبية متنوعة جمعتها الحمية الدينية.
توارى عدو الله عن الأنظار وراح يتنقل ليلا بين منازل الأقرباء والأصدقاء. لم تقدم له السلطة الحماية المطلوبة ولا هو طلبها، فتطوع شابان من آل الصوفي لحمايته في تنقلاته الليلية قدر المستطاع. موقف حزب البعث من المشكلة بدا فاتراً وأقرب الى النأي بالنفس خشية التورط في قضية بالغة الحساسية خاصةً مع اقتراب موعد اول انتخابات برلمانية بعد سقوط الشيشكلي . هدأت الخواطر وهدأت معها الاحتجاجات تدريجياً وعاد خالد الصوفي الى موقعه في التدريس مع شعوره بالإحباط مما حصل، قبل ان تنقذه من إحباطه في العام الذي تلا منحة دراسية الى إسبانيا للحصول على الدكتوراه في التاريخ من جامعة مدريد.
عاد حامل الدكتوراه الى وطنه مع زوجته الاسبانية ونصب عينيه التدريس في إحدى الجامعات، غير انه لم ينل مراده بل عاد الى تدريس التاريخ في المدارس الثانوية، الى ان نقل الى وزارة الثقافة حيث عين في منتصف الستينيات أو بعدها بقليل مديرا للمركز الثقافي في دمشق، سرعان ما دب الخلاف بينه وبين وزير الثقافة آنذاك، كانت الكيمياء مفقودة تماماً بين الرجلين، تلاسنا في احدى المناسبات علنا امام بعض موظفي الوزارة، عدو الله السابق أضحى الآن عدواً للوزير، العداء لله مؤجل العقاب أما العداء للوزير فمعجله، لذا لم يطل الأمر كي يُسرّح خالد صوفي بالاستناد الى المادة ٨٥ من قانون الموظفين. من بين مبررات التسريح " توجيه الدعوات الى أشخاص متوفين لحضور محاضرات المركز". كان الموظف المسؤول في مركز ثقافي دمشق قد سها عن تحديث لائحة الأسماء المعتمدة لتوجيه الدعوات، ما أدى الى ارتكاب الخطأ الذي حُمل مدير المركز مسؤوليته، مسؤولية استحضار الأرواح.
جمع الدكتور خالد صوفي أوراقه وغادر وطنه محبطاً من جديد الى ليبيا اولا حيث درّس التاريخ في جامعة بنغازي لفترة لم تطل كي ينتقل بعدها الى اسبانيا مع زوجته وأطفاله ليقيم فيها إقامة دائمة ويكتسب جنسيتها . أسس دارا للترجمة في العاصمة مدريد أصبحت ذات شهرة. هو الآن في أواخر الثمانينيات من عمره، ما زالت الجامعات الإسبانية تعود اليه في كل ما له علاقة بتاريخ العرب في إسبانيا. في آخر زيارة له الى اللاذقية في أوائل التسعينيات لوداع والدته المشرفة على الموت ، حاولت في احدى الجلسات استدراجه الى الخوض في تفاصيل وخلفيات حادثة 'تكفيره"في الخمسينيات، رفض بإصرار شديد الحديث عنها بعد ان شطبها نهائيا من ذاكرته كما قال ، هو لا يريد لحادثة سخيفة من هذا النوع (وهذا وصفه) ان تلطخ الصورة الجميلة التي تختزنها ذاكرته عن مدينته اللاذقية. أضاف 'غادرت سورية وقد أدرت ظهري للعرب والعروبة ولكل ما يمت إليهما بصلة، المفارقة أنني في اسبانيا ارض الصراع الممتد لسبعة قرون بين العرب و الغرب، تصالحت من جديد مع انتمائي العربي وبالتالي مع ذاتي، بعد ان تيقنت من قيمة ما أسداه العرب الى الحضارة الغربية عبر بوابتها الاسبانية، يوم لم يكن لله من عدو سوى الانغلاق والتزمت.
ما أحوجنا الى ان نعي هذه الأمثولة من جديد.
صورة لزيارة الرئيس القوتلي لمدينة اللاذقية 1944