كــــــلــــمة و رؤيــــــــا

اليوم التالي للحرب: مقدمات ومآلات.. ومخاوف

أحمد حسن- فينكس

بالتأكيد، ورغم الأوضاع الحالية المتفجّرة، إلّا أنه ليس من المبكر الحديث عن اليوم التالي للحرب لأنها، وبحسب "كارل فون كلاوزفيتس"، امتداد للسياسة بوسائل أخرى، وبالتالي فإن دويّ مدافعها ومسارات دمائها يجب أن تُسمع وتصّب أخيراً في سوق السياسة، وذلك حال لم تشذّ عنه حرب سابقة لتفعلها هذه، فمن شبه المؤكد أنه، وفي هذه اللحظة مثلاً، يجري الحديث، والتفاوض، في أمكنة عدة عن صورة وطبيعة هذا "اليوم" بين القوى الفاعلة، وإن كان الجميع ينتظر النهاية ليبلور الصورة الأخيرة.
والحال فإن لجوء البعض إلى مقارنة الأثر الزلزالي للحرب الحالية مع حرب أكتوبر 1973 يغري بمقاربة أوسع لأوجه الشبه بينهما، ففي بعض مقدماتها جاءت حرب أكتوبر بعد أن ظنّ الإسرائيلي، والأمريكي، أن المنطقة قد ترتّبت على سرير نتائج حرب حزيران 1967 التي أبرزت فكرة التفوق الإسرائيلي العسكري الساحق على العرب مجتمعين، لكن بعض ما بقي من آثار المرحلة السابقة، مثل احتلال أراض عربية، سيناء والجولان، وبقية روح شعبية ثائرة تطالب بالثأر واستعادة الحقوق، كان يتطّلب فعلاً آخر يُترجم ويُثبّت "الترتيب" الجديد سياسياً، وكان إخراج مصر- تحديداً- من الصراع هو ذلك العمل المطلوب، وبالتالي كان لا بدّ من حرب تحريك (وفق منطق مصر السادات) للسياسة تلاقت على ضرورتها -كما كشفت الوقائع والمذكرات لاحقاً- رغبة "السادات" الشخصية (تذكّروا حديثه الدائم عن آخر الحروب) برغبة جهات دولية وإقليمية (ابحثوا جيداً في دور كمال أدهم رئيس المخابرات وصهر الملك فيصل حينها) كانت تريد تمهيد طريق ساخن لنجم السياسة العالمي حينها هنري كيسنجر كي يتمكن من تقديم "وصلته" التسووية.
وأمام تلك المقدمات "التسووية" كان من الطبيعي أن يكون اليوم التالي للحرب معبّراً عنها فأُخرجت مصر من السياق العربي بوهم "مصر أولاً" وشعارات الانفتاح الذي ترافق مع وعود هائلة بالازدهار والاستقرار، وتبع ذلك إخراج العرب جميعاً بالوقت ذاته من دائرة الفعل، ثم بدأت حقبة "السعودة" و"التسوية" في المنطقة، والتي سرعان ما تلتها، بحكم حقائق الواقع، الحقبة الإسرائيلية التي رسم حدودها العامة "العزيز هنري"، كما أسماه السادات، بحيث منع "التوصل إلى تسوية شاملة من خلال إبرام سلسلة من الصفقات الثنائية بين إسرائيل والدول العربية مع تهميش حقوق الفلسطينيين إلى أجل غير مسمى، فضلاً عن سيادتهم. ولا تزال هذه الاستراتيجية الأميركية مُتَّبَعة حتى اليوم".
هذا تحديداً يوجد ما يمكن إسقاطه على حرب غزة الحالية التي لن تخرج، بطبيعة الأمور، عن هذا السياق، أي سياق التصريف في حقل السياسة، وعلى ما يبدو فإن دافعها العميق هو البحث عن تسوية جديدة، من جانب فاعل متضرّر -وهو هنا حماس- في منطقة كانت تشهد محاولة تثبيت تسوية أمريكية (اتفاقيات ابراهام) تخرجه، ومن معه، من المشهد، وتؤشّر، في الآن ذاته، إلى انتصار نهائي وكامل لفريق ومفهوم محدّدين للصراع على فريق ومفهوم آخرين، وذلك كان هدف الترتيب الإقليمي الذي كانت واشنطن تعدّه للمنطقة تمهيداً لتفرّغها للحرب الكبرى، مع الصين تحديداً، وهو "ترتيب" لم يكن له حظاً من الواقعية والنجاح على أرض الواقع نظراً لتجاهله حقيقتين، أولهما الانحدار الواضح في قدرات الضبط والمنع لفريق "التسوية" الأمريكية، والثاني تقليله من قدرات وأوراق لاعبين آخرين يريدون موقعاً أيضاً سواء في السياق ذاته أم في سياق آخر لا يبدو أنه يختلف عنه كثيراً.

إضافة إلى ذلك فإن أمرين اثنين تجاهلهما فريق التسوية الأمريكية تحت وهم القوة ووهم إمكانية إخضاع الجميع بالمال أو السلاح كان لهما دور مؤثر في إصابة هذا "الترتيب" في مقتل، أولهما أن إسرائيل، بطبيعتها الاستعمارية الاستيطانية الإحلالية لا تستطيع سوى العمل عكس مقولة كلاوزفيتس السابقة، أي جعل السياسة امتداداً للحرب، وليس العكس، فهي لا ترى، ولا تريد شعباً فلسطينياً بالمطلق، ناهيك عن دولة متكاملة الأركان -الصف السياسي والإعلامي فيها يسمي محمود عباس مستهتراً برئيس بلدية رام الله-، وثانيهما، وهو ينبثق من الأول، تجاهل أهمية تقوية موقع الطرف الفلسطيني التسووي في أعين مواطنيه على الأقل، وضرورة تثقيله بأوراق قوة وفعل يظهر بها أمامهم وكأنه يحقق لهم شيئاً ما من مطالبهم السياسية تحديداً، وذلك ما كشف جانباً كبيراً منه حسام زملط، سفير السلطة الفلسطينية لدى بريطانيا، "حين تحدّث في ظهوراته الإعلامية الأخيرة وبوضوح عن كل ما فعله فريقه السياسي لحل القضية الفلسطينية: الالتزام بالقرارات الدولية، توقيع اتفاقات السلام والاعتراف بإسرائيل، ونبذ العنف. في المقابل، قوّضت إسرائيل كل الاتفاقات بسلوكها الاستيطاني والعدواني، وسط تجاهل وتفهم غربي لهذا السلوك"، وذلك كان "كعب أخيل" الترتيب الأمريكي، الابراهيمي، للمنطقة، والذي أصابته سهام حماس التي أُطلقت منذ اللحظة الأولى من صباح السابع من تشرين الأول الحالي.
وتلك على ما يبدو بعض مقدمات الحرب الحالية وأسبابها ودوافعها، وهي تؤشّر وتفسّر بالآن ذاته، معالم تصور كل طرف لليوم التالي، فمثلاً يحمل التدمير الفاجر لغزة في طياته مستويات متعددة من الأهداف المبتغاة، منها مثلاً التعويض الانتقامي النفسي عن ذلّ السابع من تشرين الأول، ومنها ضرورة "إعادة ثقة الإسرائيليين بالأمن والاستقرار، والإيمان بأن إسرائيل لا تزال وجهة مستقطبة للاستيطان اليهودي"، ومنها، وهو أهمها، تمهيد الأرض لدخول بري كاسح وآمن تكون حصيلته الوحيدة إنهاء المقاومة في غزة بالمطلق، وتلك هي نظرة إسرائيل لليوم التالي للحرب.  
والحال فإن واشنطن لا تختلف كثيراً في نظرتها لليوم التالي عن تل أبيب إلا من ناحية رؤيتها الامبراطورية الأوسع لمصالحها في العالم وتقديرها الأدق لمواطن الضعف والقوة عند "مخفرها المتقدم" في المنطقة والذي يبدو أنه أصبح بحاجة إلى حماية عسكرية أميركية وغربية دائمة -هذا ما يرفع في الآن ذاته من أسهم دول الخليج- وذلك ما يدفع واشنطن للبحث عن يوم تال يعيد تثبيت ترتيبها السابق، وإن بسياق أوسع، يؤمّن "مصالح المحور العريض في المنطقة الذي يريد الاستمرار في العيش بالزمن الأميركي والإسرائيلي".
 وإذا كانت "السلطة" بحكم تركيبتها ودورها تنتظر، على ما يبدو، قطف ثمار اليوم التالي من حصة حماس في غزة، فإن أهداف حماس السياسية في اليوم التالي تبدو، من خطابها العلني حتى الآن، غائمة، أو للدقة أكثر قاصرة، بما يجعلها تبدو في هذه المعركة وكأنها تعرف ما ترفضه لكنها تجهل، أو تجهّل وهذا الأدق، ما تريده، فلا معنى لخطاب سياسي يقتصر -على أهمية ذلك البالغة- على تبادل الأسرى وتبييض السجون وبعض المطالب "العادية" الأخرى بعد كل هذا الخراب وهذه الدماء مع النجاح العسكري الهائل للحركة الأمر الذي كان يجب أن يدفعها لمطالب أهم تتعلق بجوهر القضية ذاتها، وهنا يجب التمعّن جيداً في الإطلالات الإعلامية لبعض قادة حماس بما تختزنه تصريحاتهم من دلالات لافتة سواء بمضمونها (عتب على طرف وصمت شبه تام عن أفعال آخر) أو بمكان إصدارها، وذلك ما يؤشّر إلى حقيقة الرغبات الدفينة التي قد لا تتجاوز محاولة وراثة دور "السلطة" دولياً بعد أن ورثته فعلياً على غزة فقط، وما يذكّرنا للأسف الشديد بوجه تشابه آخر مع حرب 1973 وهو "خذلان السياسة للسلاح، كما فعل السادات" حينها، الأمر الذي نأمل ألاّ يحدث مثله الآن.
بيد أن أهم ما في الأمر، وأوضحه، أن السابع من تشرين الأول كشف، ولمرة نهائية، أن المقاربة الغربية الحالية للقضية الفلسطينية "أصبحت تحتاج إلى إعادة التفكير فيها بشكل أساس" كما قال طوني بلير -وهو من هو في مساندة إسرائيل- فالرجل يرى أن هزيمة حركة حماس "تتطلب إعادة ضخ دماء جديدة (كما حصل في اتفاق أوسلو عام 1993) في الصراع الإسرائيلي- الفلسطيني"، وتلك على ما يبدو أبرز ملامح اليوم التالي، التي يكاد يتفق عليها الجميع، والتي قد تعيد إنتاج خارطة سياسية جديدة للشرق الأوسط.