كــــــلــــمة و رؤيــــــــا

هادي دانيال: "تَسْييسُ الرِّياضَةِ" سِلاحٌ أمريكيٌّ إضافِيٌّ مَسْمُومٌ في حَرْبٍ بارِدَةٍ جديدة؟!

إذا كانت الولاياتُ المُتَّحِدَةُ الأمريكيّةُ غداةَ انهيارِ الاتحاد السوفياتي وانْفِرادها كقطْبٍ أوْحَد في تحديدِ مَصائر السياسةِ الدّولية، قَدْ فاضَتْ عن غطرَسَةٍ وَحْشيّةٍ وَصَمَتْ سياستَها الخارجيّةَ لِفَرْضِ مَصالِحِها الإمبرياليّة بالقُوَّةِ العسكريّةِ ، فإنَّها بَعْدَ انبِعاث روسيا على يَديّ الرئيس "فلاديمير بوتين" وأيدي رفاقِهِ مِنَ الرَّمادِ الذي أوْدَتْ بِها إليهِ سياسةُ "يلتسين"، عادَتْ، أي الولايات المتّحدة ، إلى نَفْضِ الغُبار عن الأساليب التي كانت تعتمدُها في حربِها الباردَة ضدَّ الاتحاد السوفياتي السابق لِتَعْتَمِدَها مُجَدَّداً ضدَّ الاتحادِ الرُّوسيّ الباسِق ، بِدُونِ أن تتخلّى نهائيّاً عن القوّةِ العسكريّةِ كُلّما أمْكَنَها ذلك ، ولكن هذه المرّة كما في الحرب الباردة السالِفَة ، باستخدامِ أدواتٍ إرهابيّة محليّة (أو عَبْرَ العالَمِ) مِن القَتَلةِ المُرتَزَقةِ والتكفيريين كتلكَ التي تَخَلَّقَ مِنها تنظيمُ "القاعدة" في أفغانستان، ومِن ثَمَّ تَفَرُّعاته في العراق وسوريا واليمن وليبيا كجبهةِ النَّصْرَةِ و "داعش" وسواهما، بِدَعْمٍ مِن حُلفاء دوليين كفرنسا وبريطانيا وإقليميين كالسعودية وقطر والكويت والإمارات وتركيا والأردن وغيرها. 

وَمِن بَيْن الأساليبِ القديمةِ – المُتَجدِّدَة التي أعادَتْها واشنطُن وَحُلفاؤها إلى الخدمَةِ في حَربِهِم على موسكو وَحُلفائها " تَسْييسُ الرّياضة" واستخدام المَلاعب "ساحات وَغى" إضافيّة بَدَلَ أن تكونَ مَناطِق مُجَرَّدَة مِن الضّغائن ونقيّة مِن سُمُوم الصراعات السياسيّة وحشودها الإيديولوجية والعرقيّة والدينيّة والطائفيّة إلخ، واختلاق أكاذيب وإشاعتها كما سَبَقَ وأن اختلقَتْ وأشاعتْ هي ولندن أكذُوبةَ امتلاك العراق أسلحة دمار شامل مِن أجلِ "شَرْعَنَة " غَزْوِهِ واحتِلالِهِ بَعْدَ "شَيْطَنَةِ" نِظامِهِ – فأشاعتْ الدّوائرُ الأمريكيّةُ المَعْنيّةُ في المؤسساتِ والمَحافِلِ الدّوليّة أكاذيبَ تزعَمُ أنّ رياضيِّين روساً في ألعاب القُوى يَتَعاطُونَ المُنَشِّطات مُشَكِّكينَ في الوقتِ ذاتِه بمصداقيّةِ مُختَبَر مُوسكو للكشف عن المُنَشِّطات.

وَوَاقِع الحال أنّ الولايات المتّحدة وحُلَفاءها عندما وَجَدوا أنْفُسَهُم غير قادرين على استئناف تنفيذ خطَطَهم العدوانية بالقوة العسكريّة خارج الشرعية والقانون الدوليَّين ، بعدَ هزائمهم الدبلوماسية في الأمم المتحدة والعسكرية في سوريا واليمن وحتى أوكرانيا ، نقلوا الصراعَ إلى ساحاتٍ يُفْتَرَض أن تبقى مُحايدةً كالرياضة بحثاً عن "انتصاراتٍ" وهميّةٍ لتهدئةِ الصِّداع الذي عصفَ برؤوس قادة الدول الغرْبيّة وحلفائهم من المملوكين والمأمورين والمرؤوسين الذين يحكمون مُعظم الدول العربية إضافة إلى تركيا.

لقد استعادَ الغرْبُ الآن الإرْثَ الذي خلّفَهُ لهُ (هتلر وموسوليني)سَلفا قادتِه الحالييّن عندما أكدا على "قيمةِ الرياضة في تعزيزِ السّلطة الحاكمةِ كرمْزٍ للكرامةِ الوطنيّة" فقد عزَّزَ موسوليني مَوقِفَهُ مِن خِلالِ الهيبةِ التي اكتسبَها بَعْدَ فَوْزِ بلادهِ بِكأس العالم مرَّتين في عامي 1934 و 1938، بينما "أصبحتْ ألمانيا بطلَ الأولمبياد عام 1936 كرمْزٍ للتقدير ولقوَّة النظامِ الحاكم وقوَّةِ عقيدتِهِ". وفي هذا السّياق نفهَمُ قَوْلَ جوبلز مسؤولِ الدعايةِ في النظامِ النازي "إنَّ الفوزَ بمباراةٍ دولية أهمّ مِن السيطرةِ على مدينةٍ ما."

وَقَدْ بَلَغَ الغُلُوُّ عند الغرْبِ في توظيفِ الرِّياضةِ حَدَّاً بِحَيْثُ اخْتَلَطَ الأمْرُ على بَعْضِهِ  ، فتوَهَّمَ أنّ " المهزومَ في لعبةٍ ما قد ينقلُ عدوى الهزيمةِ إلى وطنهِ برمَّتِهِ"  وأمّتِه بأسرها ، فَتَطَيَّرَ هذا البَعْضُ الأمريكيّ  مِن حقيقةِ أنّ روسيا كانَ ولازالَ لديها أبرز وأمهر الرياضيّات والرياضيين المُؤَهَّلين لِحَصْدِ الميداليات الذهبيّة خاصّةً في ألعابِ القُوى ، وبالتالي قرَّرَتْ الدوائرُ الأمريكيّة حُرْمانَ روسيا مِن المُشارَكةِ في أولمبياد ريو دي جانيرو بالبرازيل 2016، وقد تمكنت مِن ذلكَ بالتنسيق مع عملاء واشنطن في أوكرانيا وغيرها ، بفبركة تهمةٍ لبَعْضِ اللاعبين الروس بتعاطي المٌنَشِّطات وفرْض عقوبة جماعيّة شملت رياضيات ورياضيي الاتحاد الروسي بألعاب القوى وَحَرَمَتْهُم مِن المُشاركة في أولمبياد البرازيل  بدون اعتماد أدِلَّةٍ باستثناءِ تصريحات الخائن "غريغوري رودتشينكوف" الرئيس السابق لمرْكزِ مُكافحةِ المنشِّطات الرُّوسي الهارِب إلى الولاياتِ المتحدة. والمُفارَقَةُ هُنا أنّ موقع www,fancy bear,net   كَشفَ وبالوثائق كيف ثَبَتَ أنَّ رياضيين بريطانيِّين وأمريكييّن ، تعاطوا المنشِّطات في مونديال البرازيل ولكنْ بِعِلم المُشرفين عليهم وبذريعَةِ أنَّها أدْوِيَة .

وقبل ذلك كانَ ثلاثة عشر عضو في الكونغرس الأمريكي يتصدّرهم من الحزب الجمهوري  "جون ماكين" رئيس لجنة القوات المسلّحة ، و"رون جونسون" رئيس اللجنة الأوربية المنبثقة عن لجنة العلاقات الخارجية ، ومِن الحزب الديمقراطي "روبرت منينديز" عضو لجنة العلاقات الخارجيّة  بِمَجْلِسِ الشيوخ وزميله  "ريتشارد ديرين" ، قد أقدَمُوا بصلافَةٍ على توقيع بيانٍ يُطالِبُونَ فيهِ و "يُناشِدُونَ بِقُوَّةٍ" الاتحادَ الدّوليّ لكرةِ القدَم (الفيفا) أن يَنْقلَ نهائيّات  كأسِ العالم 2018من روسيا "بسببِ دَوْرِها في أزمةِ أوكرانيا".  إلّا أنّ رئيسَ الاتحاد الدولي لِكُرَةِ القَدَم السويسريّ جوزيف سيب بلاتر أكّدَ أنَّ الفيفا "يدعم بدون قيدٍ أو شرْط" السلطات الروسية لاستضافةِ نهائيّاتِ كأس العالم عام 2018 ويُعارِض احتمالَ مُقاطعة المونديال بسببِ الأزمةِ الاوكرانيَّةِ المَزعوم. وقال ردّاً على بيانِ أعضاءِ الكونغرس الأمريكي "عندَما حَصَلنا على رسائل مِن أمريكا الشماليَّة (تطالِبُ بِسحْبِ استضافةِ المونديال من روسيا)، كنّا نردُّ عليها بأنَّ الأمْرَ يتعلق بِكُرةِ القَدَم". و "يمكنني القول أنَّهُ بالمُقارنةِ مع البرازيل (التي استضافتْ كأسَ العالم الأخيرة الصيْفَ الماضي)، فإنَّ روسيا مُتقدِّمة بشكل كبير في الاستعدادات".

وَمِنَ المَعروف أنَّهُ سبقَ للولاياتِ المتحدة وعدَّةِ دول غرْبيّة أن قاطَعَتْ دورةَ الألعاب الأولمبية بموسكو عام 1980 "احتجاجا على غزو الاتحاد السوفياتي السابق لأفغانستان"، وفي المقابل قاطعت موسكو دورةَ الألعابِ الأولمبيَّة في لوس أنجيلوس عام 1984.

وهذا كلّهُ وغيره كثير دَعا الرئيس الروسي "فلاديمير بوتين" إلى التحذيرِ مِراراً مِن مَخاطر "تسييسِ الرِّياضةِ" على المُجتمَعِ الدوليّ ، وَ بَيَّنَ أنَّ مُشكلةَ المُنَشِّطات ليستْ مُشكِلَةَ روسيا وَحْدَها بَل هِيَ مُشكلة عالم الرِّياضةِ بأسْرِهِ ، وإذا حاوَلَ أَحَدٌ أنْ يُسَيِّسَها فإنّهُ يَقْتَرِفُ خَطأً كبيراً ، وَكما هُوَ الحال في الثقافةِ لا يُمْكِنُ التَّعامُلُ مَع الرِّياضةِ بِدَوافِع سياسيّة لأنَّ تلكَ المَجالات تُشَكِّلُ جُسُوراً تُقَرِّبُ بينَ الشُّعُوبِ والحُكُومات ، وعلى هذا النّحْوِ يَجبُ التّعامُلُ مَعها مِن دُونِ تَوظيفِها لِتَحْقيقِ أهْدافٍ سياسيّة ضدَّ رُوسيا أو سِواها مِن الدُّوَل".

وأكَّد بوتين خلال لقاء عقده مع قرابة 150 رياضيّاً رُوسيّاً، بينهم أعضاء المُنتخَب الأولمْبي الرُّوسي والرياضيِّون الذين مُنِعِوا مِن التوجه إلى أولمبياد ريودي جانيرو، أنَّ "الوضْعَ غير العادِل الحالي ليسَ إلا مُحاولة لنقلِ القواعدِ المُسَيْطِرَةِ على السِّياسةِ العالميَّة إلى مَجالِ الرياضةِ".

وتَسييسُ الغَرْبِ للرياضة لم يَقْتَصِرْ على روسيا بل شَمَلَ حُلَفاءها وخاصة سوريا ، ففي أولمبياد لندن 2012قررت الحكومةُ البريطانيّة عَدَم إعطاءِ  اللواء "مُوَفَّق جمعة" رئيس اللجنة الأولمبيّة السورية تأشيرةَ دُخُولٍ إلى المَمْلَكةِ المُتَّحِدَةِ وبالتالي مَنْعهُ مِن المُشاركة في الأولمبياد بذريعةِ أنّ ثمّة علاقة تَجمَع اللواء جُمْعَة برئيسِ الجمهوريّةِ في بلادِهِ ، فهَل ثمّتَ أسْخَف مِن هكذا ذريعة تتذرَّعُ بِها هذه الإمبراطوريّة الخَرِفَة ؟! . ألا يَنْطَبِقُ على هذا السلوك البريطاني قَوْلُ الكاتب الإسباني مانويل فاسكيز مونتلبان (1939-2003): "الرِّياضَةُ الجماهيريَّة تُعَدُّ مُتَنَفَّساً للغازاتِ السيِّئة الموجودة في بَطْنِ المُجْتَمَع.".. مع تَصَرُّفٍ مِنّا بِتغيير مُفردة "المُجْتَمَع" إلى مُفْرَدَةِ "الحُكومة"؟!. بَلْ أمْعَنَ هذا الغَرْبُ في رُعُونَتِهِ وَتَهافُتِهِ إلى أنْ دَفَعَ اللجنة الأولمبيّة الدّوليّة إلى التَّمَرُّغِ في أوْحالِ "تَسييسِ الرياضة" عَنْدَما كَلَّفَتْ السوري "ابراهيم الحسَن" بِحَمْلِ الشّعْلَةِ الأولمبيّة " باسمِ كُلِّ اللاجئين عبْرَ كُلِّ العالم "مِنَ العاصمةِ اليونانيّة إلى ريو دي جانيرو مَسْرَح أولمبياد2016. فإذا كانَ "الفيفا" قد تنَبَّهَ فعْلاً إلى هذه القضيّة الإنسانيّة الكبرى ، قضيّة اللاجئين في العالم ، أما كان جديراً بِهِ أن يَختارَ لاجئاً فلسطينيّاً مِن مَلايين اللاجئين الفلسطينيين  ضحايا وَعْد بلفور والاحتلال الصهيوني لأرْضِ فلسطين  وتشريدِ شَعْبِها إلى أصقاعِ الدُّنيا بالإرهاب المسلَّح ، بَدَلَ أن يختاروا فرداً مِن قضيّةِ لُجُوء اصطُنِعَتْ في سياقِ ما اصطُنِعَ لِتَدمير الدولة السوريّة في سياقِ مُخَطَّطِ "الربيع العربي" الذي مِن بين أهدافِهِ  تصفيَة القضيّةِ الفلسطينيّة ؟. 

أهكذا تُتَرْجَمُ مَطالبُ "الفيفا" بإبعاد " السياسةِ والدِّين والتَّعَصُّب العِرْقِي والتمييز بين الجنْسَيْن ، عَن الرِّياضَة"؟.

وهكذا ببساطة إذا زَعَمتْ واشنطن أنّ مُواطناً روسيّاً قد أخطأ فَيَجِبُ على أتباعِها في الغرْبِ والشرْقِ مُعاقَبَة روسيا بأسْرِها ، مثلما دَمَّرَوا العراقَ بأسْرهِ لأنّ واشنطن زعمتْ أنّ الرئيس صدّام حسين يَمْتلكُ أسلحةَ دَمارٍ شامِل.

لقد قالَ الكاتبُ الإسباني مانويل فاسكيز مونتلبان  في مُقَدِّمةِ كتابِهِ الصَّادِر عام 1972 "السياسة والرِّياضة": إنَّ "اليَسارَ يَنتقِدُ الرِّياضةَ بِسَبَبِ أنّها تَميلُ إلى صالِحِ اليَمين، وذلك مِن خِلالِ تَحْويلِها إلى أداةٍ للضَّغْطِ القَوِيّ".

لَقَدْ تَواضَعَ البَشَرُ على أنَّ الرِّياضَةَ ، مَثَلُها في ذلكَ مَثَلُ الآدابِ والفُنُونِ ، نَشَاطٌ حَضارِيٌّ لِتَكثيفِ أوَاصِر الصَّداقةِ بَيْنَ الشُّعُوبِ والحَضِّ على قِيَمِ الخَيْرِ السَّامِيَة ، في مُوَاجَهَةِ الشرِّ المُسْتَطير أو الكامِنِ في النّزعاتِ العدوانيّةِ التي تَرْفَعُ جدْرانَ الكَراهِيَةِ والانْعِزالِ وَتُحَرِّضُ على حَفْرِ الخَنادِقِ وإقامَةِ المَتاريسِ الحَرْبيّةِ.

إلّا أنَّ الإمبرياليّةَ الأمريكيّةَ (انْسِجاماً مَع طَبِيعَتِها ؟) تَحرصُ على تجريدِ  المَلاعِبِ مِن براءتِها ، في مُخْتَلَفِ المُناسَباتِ الدَّوليّةِ خاصّةً ، وَتَحْويلها إلى بُؤَرِ تَوَتُّرٍ لِنَشْرِ الضّغائنِ ليسَ فقط بَيْنَ الفِرَقِ الرياضيّة المُتَنَافِسَةِ بل وَبينَ جُمْهُورِ كُلِّ فريقٍ وَطنيٍّ أيضاً ، كي يَنْقَلِبَ هذا التَّنافُسُ السِّلْمِيُّ بينَ الأُخْوَةِ في الإنسانيَّةِ إلى ضَرْبٍ مِنَ التَّباغُضِ والتَّناسُفِ وإطلاق الغرائزِ العُنْصُريّةِ التي يُفْتَرَضُ أنّ مِنْ أهَمِّ أهْدافِ النشاطِ الرِّياضيِّ تَشْذِيبَها وتهذيبَها إنْ لم نَقُلْ لَجْمها ووأْدها!.   

حقائق أون لاين