الفضيحة التي هزّت الأدب الفرنسي

علي بدر

في إحدى أمسيات باريس الأدبية، كانت فانيسا سبرنغورا في الرابعة عشرة من عمرها، ترافق والدتها العاملة في دار نشر إلى حفلة أدبية مزدحمة بالكتاب والناشرين.
هناك، وسط الدخان والكؤوس والكلمات البراقة، اقترب منها كاتب خمسيني بملامح واثقة وابتسامة مريبة. كان اسمه غابرييل ماتزنيف، الكاتب الذي شغل الأوساط الثقافية برواياته عن “الحب الحرّ” مع المراهقات، والذي لم يخفِ يوما افتتانه بالقاصرات، بل حول علاقاته بهن إلى مادة أدبية يتباهى بها في كتبه ومقابلاته. في تلك اللحظة بدأت واحدة من أكثر القصص المثيرة للجدل في تاريخ الأدب الفرنسي الحديث.
تلك الحفلة، التي بدت عادية في حياة الوسط الثقافي الباريسي، كانت نقطة التحول في حياة فتاة لم تكن تعرف أن ما ينتظرها ليس حباً، بل استدراجاً منهجيا يختلط فيه المجد الأدبي بالعنف النفسي.
ماتزنيف، الذي كان محاطاً بهالة من التقدير والجوائز، بدأ بملاحقتها برسائل، كتب إليها كما يكتب إلى بطلات رواياته، بلغة يغلفها الإغراء والفكر والعبارة الأدبية. لم يكن الأمر علاقة بين كاتب ومراهقة، بل بين سلطة وهيمنة، بين رجل يعرف تماما كيف يخدر الضحية بالكلمات، وكيف يحول الجريمة إلى حكاية رومانسية تروى في الصالونات. اتذكر اني شاهدت مرة برنامج اوبستروف وظهر ماتزنيف وهو بالخمسين من عمره اصلع وطويل القامة وهو يتحدث عن علاقته بقاصر بعمر 14 عاما.
سنوات طويلة مرت قبل أن تتحدث فانيسا عن الأمر. لم تتحدث بمجرد شهادة، بل محاكمة رمزية لزمن كامل، لثقافة أعطت الكاتب سلطة مطلقة على الجسد الأنثوي، ما دام يبررها بعبارات مثل “الحرية” و“العبقرية” و“الفنّ”. الكتاب تفكيك دقيق لمفهوم “الرضا” (صدرت عن دار الجمل) في علاقات غير متكافئة، إذ تبرهن فيه أن الرضا لا معنى له حين يكون أحد الطرفين طفلة، والآخر رجلا يملك اللغة والسلطة والمكانة.
فانسيا لا تصرخ، لا تنتقم، بل تتحدث من قلب التجربة، حيث اللغة نفسها تصبح أداة تحرر. النص لا يكتفي بسرد ما جرى، بل يسائل كيف سمح الأدب الفرنسي لنفسه بتطبيع العنف، وكيف شارك النقاد، والناشرون، والقراء في تحويل الجريمة إلى أسطورة ثقافية. لقد تابعت القضية منذ بداياتها، منذ تلك اللحظة التي انكشف فيها الوجه الحقيقي للوسط الأدبي الذي طالما تباهى بليبراليته. لكن بعد حديث فانسيا أدركت أن القضية أعمق من فضيحة.. إنها نقد للثقافة التي أنتجت فكرة أن الحرية الأدبية يمكن أن تبرّر الافتراس.
الكتاب هز فرنسا، ودفع السلطات إلى فتح تحقيق في ماضي ماتزنيف، كما حرّك النقاش حول سن الرضا القانوني في العلاقات الجنسية. لكنه، قبل كل شيء، فتح جرحا ثقافيا لم يغلق بعد، جرح السؤال عن حدود الفن، وعن اللغة التي يمكن أن تبرر الجريمة وتجملها.